لماذا تحتاج أمريكا للأمم المتحدة؟

TT

ظل الرئيس جورج دبليو بوش يتعهد مراراً بأن الولايات المتحدة ستحرر العراق وهي لا تسعى لاحتلاله، وإن الهجوم الأمريكي العسكري على العراق سيفسح الطريق أمام حقبة حرية وحكم ذاتي لمرحلة ما بعد صدام.

لكن بدون جهد تعددي دولي كبير بعد الحرب يقرّه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ويعززه حلف الناتو أو أي هيئة أمن عالمية أخرى فإن الولايات المتحدة ستفشل في جلب الحرية أو الاستقرار للعراق وستجد أمريكا صعوبة متزايدة في إدارة مصالحها الضخمة عبر المنطقة سواء أكانت تتعلق بإسرائيل أو بتأمين الطاقة أو بالحملة المتواصلة ضد القاعدة. إن الحرب ضد صدام حسين كانت عملاً صائباً ولكن إعادة تشكيل العراق، ذلك البلد الواسع العتيد في قلب العالم العربي، تعتبر مهمة لا تستطيع الولايات المتحدة أن تحملها، وحدها، على عاتقها.

إن الولايات المتحدة من خلال العمل عبر الأمم المتحدة بعد الحرب ستكون قادرة على إعادة الانخراط مع الدول العربية والإسلامية والسعي من أجل الحصول على مساهمتها الدبلوماسية والمالية. وستسرع عملية الانتقال إلى حكومة عراقية كاملة، والذات حكومة لا ينظر لها في المنطقة على أساس أنها دمية أمريكية. وللأمم المتحدة أيضاً خبرة في جهود إعادة البناء لمرحلة ما بعد الحرب بعد أن تحملت العبء في البلقان وتيمور الشرقية وغيرهما. وسيمنح تفويض من الأمم المتحدة أيضاً مصداقية لأي فرقة أمنية لحلف الناتو تنضم الى القوات الأنجلو أمريكية الموجودة الآن هناك.

ولكن الأمم المتحدة من خلال برنامج النفط مقابل الغذاء اكتسبت سلفاً تجربة عميقة في العراق. وسيقدم تفويض الأمم المتحدة أيضاً إطاراً أكثر مشروعية يمكن من خلاله مواجهة موضوعات جرائم الحرب. والأكثر أهمية أن جهداً دولياً عريضاً يستند إلى تفويض من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة سيساعد الولايات المتحدة في إعادة انخراطها في المجتمع الدولي ضمن أجندة أمنية أوسع، من كوريا إلى جنوب آسيا وإلى الحرب المستمرة ضد الإرهاب. في البداية، سيتمفصل مجمل مشروع ما بعد صدام حول الأمن، وبدون وجود بيئة آمنة مطمئنة على الأرض فليس من الممكن تحريك شيء آخر. ومع ذلك فإنه وحتى على نطاق الأمن فإن الولايات المتحدة ستستفيد اكثر في حالة وجود إطار تعددي مثل حلف الناتو. ويمكن لترتيبات كهذه ان تحافظ على حرية أمريكا في مجال نزع سلاح العراق وازالة ما تبقى من نظام صدام حسين بينما تكسب في نفس الوقت مشروعية أكبر لدور الولايات المتحدة على وجه العموم.

تخيل هذا السيناريو المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية وأحد كبار الصقور، جيمس ووسكي، في بغداد كجزء من إدارة ما بعد صدام. الدولار الأمريكي يصير بديلاً للعملة العراقية، كل مكتب حكومي عراقي له «وزير ظل» أمريكي في الغالب من البنتاغون، السيطرة الأمريكية العسكرية على العراق، حتى في شؤون المدنيين، تستمر على نحو طيب حتى العام المقبل. إذا كان الأمريكيون يجدون مثل هذا السيناريو خطيراً، فإن العرب سيجدون فيه بالتأكيد سبباً يدفعهم للسخط والغضب. وللأسف فإن هذا السيناريو ليس محض خيال وإنما رؤية لما بعد صدام، يواصل بعض أعضاء إدارة بوش الترويج لها. إن هذا الصراع الملحمي الذي يتكشف داخل إدارة بوش لن يحدّد فقط شكل العراق «في اليوم التالي» وإنما يحدد أيضاً وجهة السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط وجهود السلام العربي ـ الإسرائيلي وضمان توفير طاقة من الخليج بسعر معقول، وهزيمة لشبكة القاعدة، وتحكم في انتشار أسلحة الدمار الشامل إلى إيران، كل ذلك يتمفصل حول نجاح مرحلة ما بعد الحرب في العراق.

بالرغم من أن إدارة بوش فشلت في الحصول على تفويض دولي لنزع سلاح العراق بالقوة فإن الولايات المتحدة تملك فرصة أخرى للعودة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي لبناء تحالف حقيقي من أجل المهمة الطويلة الصعبة التي أمامها. وبدون تفاعل عالمي عريض فإن الولايات المتحدة ستجد نفسها سريعاً معزولة دبلوماسياً تحمل على كاهلها عبأً مالياً ثقيلاً وهي تغوص في وحل جهد أولمبي ببناء دولة يجعل العديد من الأمريكيين يتساءلون لماذا ذهبنا إلى حرب مع العراق في المقام الأول؟

لقد أثبت العمل العسكري الأمريكي المنفرد أنه فعَّال في إحراز النصر في الحرب ولكن الولايات المتحدة ستفقد السلام بالتأكيد إذا لم تثبت توجهاً تعددياً دوليّاً لمرحلة ما بعد الحرب. وبينما بدأت القوات الأمريكية في تضييق الخناق حول نظام صدام فإن على الرئيس بوش ليس فقط أن يشاهد وهو يستنهض القوات وإنما يجب مشاهدته وهو يقف جنباً إلى جنب مع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان.

إن الرئيس يحتاج لكي يتقدم تحت الأضواء وأن ينهي الشكوك بأن العمل العسكري الأنجلو أمريكي سيعقبه «تحالف قادرين» آخر (وهي عقيدة لم تقبلها أبداً باقي دول العالم بوصفها تفسير للدبلوماسية الفاشلة حول العراق، ولكن تراها بدلاً عن ذلك كانعكاس لازدراء أمريكي عميق الجذور للعمل الذي يحصل على موافقة عامة، وتفضيل من جانب إدارة بوش للعمل من جانب واحد).

تأكد أن التحدي الذي يواجه أمريكا في العراق وعلى نطاق الشرق الأوسط ليس في كيفية ممارسة القوة وإنما في كيفية الحصول على نفوذ وسلطة ومصداقية. وبالسعي للحصول على تفويض واسع النطاق بإعادة بناء العراق يمكن لواشنطن أن تضيق الهوة الواسعة بين قوتها المتعاظمة دوماً وسلطتها المتناقصة على نحو سريع.

ان المسيرة نحو بغداد يجب ألا تختلط بدخول أمريكا إلى برلين وطوكيو وسيول. إن عالم اليوم عالم مختلف ولم تعد الولايات المتحدة مغلقة داخل صراع عالمي. إن حرب العراق هي حرب اختيارية وهي حرب تم خوضها من اجل أهداف محدودة.

إن الرؤية الاستراتيجية، التي يروِّج لها كادر صغير من هذه الإدارة يرى ان يعيد تشكيل العراق على صورة أمريكا ويرسل طلائع قدامى مسؤولي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والبنتاغون لتسلم السلطة في بغداد، هي وصفة جهنمية مؤكدة لعدم الاستقرار ويمكن بسهولة أن تقلب «التحرُّر» إلى مشروع لاستعمار جديد يضر بمصالح أمريكا ويؤدي إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط بأكمله لسنوات قادمة.

* عضو مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك وهذه وحهة نظره الشخصية، خاص بـ"الشرق الأوسط"