الأكراد.. بين العدوان.. والوحدة الوطنية العراقية

TT

فرض موقف الأكراد من العدوان الأميركي ـ البريطاني على العراق نفسه على الساحة السياسية في مصر حيث تجمع القوى والأحزاب والهيئات غير الحكومية على ادانة هذا العدوان، والوقوف ضد محاولات التدخل الأميركي في المنطقة.. ولذا تساءل الكثيرون عن الأسباب التي دفعت الأحزاب الكردية للوقوف مع قوات الغزو الأميركية وعن أثر ذلك على الوحدة الوطنية في العراق، وعلى سلامة العلاقات العربية ـ الكردية.. وكان طبيعياً أن نحاول الوصول الى الحقيقة عن طريق الحوار الذي أصبح أساساً للعلاقات العربية ـ الكردية في العصر الحديث منذ استقبل الزعيم جمال عبد الناصر الملا مصطفى البرزاني في القاهرة عام 1958.. وأقيمت الجولة الأولى من الحوار العربي ـ الكردي في مايو 1998 بدعوة من اللجنة المصرية للتضامن، والتي شاركت فيها قيادات الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وعدد كبير من السياسيين والمثقفين المصريين.

وفي هذا الحوار المثمر تأكدت الحقائق الآتية:

أولاً : الدستور العراقي ينص على أن الشعب العراقي يتشكل من قوميتين: العرب والأكراد، وهو حق لم يتوفر للأكراد في تركيا الذين أنكر عليهم (مصطفى كمال أتاتورك) قوميتهم وأطلق عليهم اسم (أتراك الجبل).. ونهجت السلطات التركية ـ بعده نفس الأسلوب فحرمت التدريس باللغة الكردية في المدارس، أو وجود اذاعة كردية، أو تنمية الثقافة الكردية.. وهكذا اضطهدت القومية الكردية من بين القوميات الأربع في منطقة الشرق الأوسط وهم العرب والفرس والأتراك والأكراد.

ِثانياً: ظهر حرص الأكراد واضحاً في التمسك بوحدة العراق وسيادته على أساس ديموقراطي، والتمسك أيضاً بالأخوة العربية ـ الكردية، والتأكيد على ضرورة انسحاب القوات الاسرائيلية من كل الأراضي التي احتلتها في عدوان الخامس من يونيو 1967 واقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس كسبيل لاقرار السلام الشامل والعادل في المنطقة.

ثالثاً: تعرض الأكراد في العراق منذ عام 1963 لاضطهادات غير مبررة فقد هجر قسراً الأكراد الشيعيون من بغداد، وأزيلت حوالي ألف قرية كردية وشرد سكانها وقتل عشرات الألوف، وعندما تمت مقاومة ما سمي باسم «الهندسة السكانية» تعرضت قرية (حلبجة) عام 1989 لاستخدام الأسلحة الكيماوية والغازات السامة الفتاكة مما أباد حوالي خمسة آلاف من سكانها.

هذه الحقائق كانت دافعاً للمشتركين في تلك الجولة من الحوار العربي ـ الكردي الى السعي من أجل تصفية الجو وازالة الخلافات بين العرب والأكراد في اطار وحدة العراق الديموقراطي الفيدرالي، وخاصة بعد أن أصبح شمال العراق خارجاً عن سيطرة الحكومة المركزية في بغداد، وهو ما أدى الى وقف الصراع والقتال بين الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، في اتفاق تم توقيعه في واشنطن.. وهو ما أثار تصوراً بأن الأكراد أكثر استجابة لأميركا.

ولكن ما ظهر في الجولة الأولى للحوار العربي ـ الكردي كشف أن أكراد العراق يتشبثون بالعراق، ويطالبون بوقف الغارات الجوية في نفس الوقت الذي كانوا يطالبون فيه النظام العراقي باقرار الحقوق الديموقراطية.

أذكر أنني سألت السيد مسعود البرزاني في رسالة عن نظرته للموقف داخل العراق، وعن موقفه من الغارات الأميركية والبريطانية وتقديره لأثرها، وجاء منه الجواب التالي:

«كنا وما زلنا نلتزم برأي ثابت حول القضية الكردية في اطار دولة العراق، بما يعيد الاستقرار والسلام للعراق ويضمن سيادته ووحدته. ونعتقد بأنه لو نفذت الحكومة العراقية حلاً صحيحاً لقضيتنا لما توصلت الأمور الى هذا المستوى ولما نشأت حاجة الى الحماية الدولية، ونأمل أن يأتي اليوم الذي تحل فيه القضية، فلا تعود أية ضرورة لحماية دولية.

أما عن الغارات الأميركية والبريطانية فانها تلحق أضراراً بالعراق وتطيل أمد الحصار.

إن موقفنا ازاء الأزمة العراقية منذ البداية هو أن تحل هذه الأزمة سلمياً بما يوفر شروط رفع الحصار وخلاص الشعب العراقي من التجويع والبؤس والحرمان».

ولكن ما تطلع اليه مسعود البرزاني من حل المشكلة سلمياً لم يتحقق وأصرت أميركا وبريطانيا على العدوان العسكري على العراق.. وكانت هذه الحرب المدمرة التي يتعرض فيها الأبرياء كل يوم الى القتل والدمار، وأصبح التساؤل واجباً عن دور الأكراد في هذا التطور، وكان هذا التساؤل نابعاً من حرص على وحدة العراق.. ومن ايمان بأهمية الأخوة العربية ـ الكردية ومن ضرورة ارتباط موقف الأكراد مع مجمل الشعب العراقي الذي أكدت مقاومته الشاملة للعدوان أنها تنبع من أصالة وطنية وقومية.. وأنها تنال الاحترام لما تقدمه من مثال للاخلاص والتضحية.. وذلك مع تقدير لمسؤولية القيادة الكردية في ضرورة حماية الأكراد الذين تعرضوا لمطرقة النظام خلال السنوات السابقة.. والتساؤل نابع أيضاً من أنه لا يجوز أن تنجذب (القيادة) الى الخلافات في حدود القطر الواحد مهما كانت قسوتها في وقت تقتحم فيه الوطن قوات العدوان الأجنبي التي تستهدف الاستعمار وسلب خيرات الوطن مع التقدير بأن القضية ليست كردية فقط ولكنها تشمل قوى المعارضة التي اختارت طريق التعاون مع الأميركيين مع ملاحظة أن الأكراد يعارضون وهم وقوف على جزء من أرض الوطن على خلاف قوى المعارضة الأخرى التي تعيش في دول أخرى.. وهنا يجب أن نشير إلى موقف الأكراد في منعهم القوات التركية من دخول أرض العراق واستجابة الأميركيين لذلك.

وأخيراً فإنه لا شك أن الأكراد يقدرون للولايات المتحدة حمايتها لهم من غضب وعدوان النظام في بغداد.. ولكن هذه الحماية بعد سماع كلمات كولن باول وزير خارجية أميركا في خطابه أمام البرلمان الكردي في أربيل في ديسمبر الماضي، وقال فيه «انني فخور بأنكم من شركاء الولايات المتحدة ضد الاستبداد والارهاب وبأنكم تشاركوننا في رؤيتنا المستقبلية للعراق الديموقراطي التعددي الموحد والمصان بوحدة أراضيه الاقليمية وبحكومة تحترم حكم القانون وحقوق جميع العراقيين».. هذه الحماية أصبحت موضع تشكك بعد العدوان مما دفع الى سؤال المسؤولين الأكراد عن حقيقة موقفهم من العدوان وعن دورهم في هذه المرحلة، وعن طبيعة العلاقات بين العرب والأكراد.

وجاءت الرسالة التالية من مسعود البرزاني أول ابريل الجاري يقول فيها «موقف حزبنا ثابت ولم يتغير.. نحن مع وحدة العراق وسيادته وضد أي وصاية خارجية ولا نؤيد حرباً ضد شعب العراق، ولكن في الوقت نفسه ندعو الى اقامة عراق ديموقراطي برلماني فيدرالي أساسه الأخوة العربية ـ الكردية».

المواقف الفكرية اذن ثابتة عند الأكراد.. والمشكلة تكمن في العدوان الذي وقع على العراق.. والذي يجب أن يقاوم عن طريق الوحدة الوطنية العراقية التي يجب أن ترتفع فوق كل الخلافات.