«كرة النار» في بغداد تسابق «كرة الثلج» في واشنطن!

TT

حاول البيت الأبيض في الأيام القليلة الماضية ان يوحي للرأي العام ان الرئيس جورج بوش لا يتمترس هو أيضا وراء أجهزة التلفزة التي تنقل بثا مباشرا لسير المعارك في العراق.

الهدف من وراء هذا بالطبع، أولاً للإيحاء بأن بوش مطمئن تماما إلى نتائج الحرب وهو مهتم بشؤون كثيرة أخرى، وثانيا وهو الأهم، إبعاد صورة الرئيس عن مستنقع التناقضات والصراعات التي باتت مكشوفة داخل «المستوى العسكري» سواء في البنتاغون او في ميدان العمليات في العراق.

قبل ساعات من بدء «الهجوم الكبير» على تحصينات الحرس الجمهوري فجر الأربعاء الماضي، كان السؤال الذي يُطرح همسا في أوساط الجمهوريين والديموقراطيين على السواء:

* هل يمكن قطع رأس رامسفيلد الآن؟

ـ طبعا ليس الأمر ممكنا في هذا الوقت بالذات، لأن ليس هناك من يغير أحصنته وسط السباق، حتى لو ثبت ان هذه الأحصنة سيئة وتتسبّب بكارثة. ثم أن قطع رأس وزير الدفاع الأميركي، الذي يمتلك وجها من شمع وعقلاً من شمع على ما تشي قسماته، سيكون بداية «دومينو» أميركي قد يجرف عددا كبيرا من الأسماء البارزة في البنتاغون وحتى داخل الادارة السياسية.

وهكذا عندما قام جورج بوش بتقديم إشادة قوية بوزير خارجيته كولن باول ثم بوزير دفاعه رامسفيلد، انما كان يحاول أن يضع حجرا ثقيلاً فوق فوهة البشر التي بدأت تطلق روائح كريهة في واشنطن، لكن السؤال يظل مشروعا: إلى متى يمكن بوش ان يحافظ على التوازنات الهشّة داخل إدارته؟

ـ تقضي الحكمة بعدم المسارعة إلى الرد على هذا النوع من الأسئلة في الوقت الراهن، لأن ما يجري في واشنطن يسلك المنطق العربي المعروف «لا شيء يعلو فوق صوت المعركة»، لكن هذا لا يعني قط ان صوت المعركة السياسية لن يرتفع وبشكل قد يتجاوز حتى أصوات الانفجارات والقذائف.

فلقد كانت الأمور مثيرة تماما في الأيام القليلة الماضية، ولا نغالي إذا قلنا إن رامسفيلد ورئيس هيئة الأركان ريتشارد مايرز كانا يذهبان إلى الصحافيين في كل صباح ليتعرضا إلى قصف ثقيل من الأسئلة، ربما أكثر من القصف الذي تعرضت له المواقع المحيطة ببغداد، وذلك على خلفية مفاجأة الأيام الأولى للحرب، التي جعلت شعار «الصدمة والترويع» يذهب في اتجاه عكسي فيفعل فعله في أميركا أكثر من العراق والشرق الأوسط.

ومن المؤكد أن البيت الأبيض لا يملك ما يكفي من الأصابع لسد الثقوب التي قد تتزايد في الإناء الذي يرشح صراعات وتناقضات، إلى درجة ان الذين يؤمنون بالديموقراطية في أميركا لا يتوانون في القول: إذا كانت هذه الحرب قد شنّت لتغيير النظام الاستبدادي في بغداد، فإنها ستغير «النظام الإمبراطوري» في واشنطن، او على الأقل سترسل عددا كبيرا من المسؤولين إلى المساءلة او إلى بيوتهم.

ولم تكن مجلة «نيوزويك» تغالي في عددها الأخير عندما أشارت إلى أن مساعدي بوش يبذلون جهودا كبيرة للإيحاء بأن ليس هناك ما يسمّى «الادارة السيئة للمعركة»، وهي الصفة التي التصقت بالرئيس الأسبق ليندون جونسون في خلال حرب فيتنام. ولكن الوقائع والمؤشرات توحي تقريبا بوجود «ادارة سيئة للمعركة» و«ادارة سيئة للإدارة» أيضا.

وإذا كان من المبكر جدا الانسياق وراء «نيوزويك» التي طرحت سؤالاً يقول: «هل يسقط النسر الأميركي الأسود مجددا»، وذلك على خلفية التذكير بفيلم: «سقوط النسر الأسود» الذي يروي قصة الحملة العسكرية الأميركية الفاشلة في الصومال عام 1993، فان هناك بالتأكيد ما يبرر استحضار فيلم آخر هو: «ليلة الجنرالات» الذي أخرجه اناتول ليتفاك عام 1967، وهو يصور مذبحة تقع بين الجنرالات النازيين، حيث لعب بيتر أوتول دور جنرال مجنون وظهر عمر الشريف في دور جنرال آخر.

* لماذا «ليلة الجنرالات»؟

ـ لأن التصريحات والمواقف المتناقضة من البنتاغون إلى أرض الميدان، توحي بأن الخناجر مسلولة وراء ظهور الجميع، وانه ما أن تتوقف المعارك في العراق حتى يبدأ الطعن في الظهور والصدور.

ان كلاما من هذا النوع لا ينطوي على أي مبالغة، يكفي أن نقرأ مليا ما قيل عن خلافات سبقت الاعداد للحرب بين رامسفيلد والجنرال تومي فرانكس، وبين هذا الأخير ورئيس هيئة الأركان مايرز، وطبعا بين كولن باول القادم من البنتاغون ومن رئاسة هيئة الأركان أيضا إلى الخارجية، ورامسفيلد وكذلك مع باقي أفراد «العصابة» (ديك تشيني ـ كوندوليزا رايس ـ بول ولفووفيتز).

ثم أن الأمر لم يتوقف عند هذا المستوى القيادي، بل وصل إلى التراشق العلني بين الجنرال فنسنت بروكس في مقر القيادة المركزية في السيلية بقطر والجنرال وليام والاس قائد القوات البرية في العراق.

لقد قيل الكثير عن الإعداد السيئ للحرب وعن عناد وزير الدفاع، وسيكون ما قيل بمثابة فاتورة مستحقة للتسديد ما أن تتوقف الحرب، وفي هذا السياق يقدم الجنرال المتقاعد باري مكفري الذي كان قائدا لفرقة مشاة في حرب «عاصفة الصحراء» عام 1991 أسئلة مثالية: «لماذا القيام بهذه العملية بدون قوة كافية؟ هل توافر وقت كافٍ للذهاب... نعم كان لدينا الوقت الكافي. هل كان اختصار القوة العسكرية بهدف الاقتصاد في النفقات التي تبلغ 200 مليار دولار، أم لأنك (المقصود رامسفيلد) تدين برأي إيديولوجي، وعلى مقدار من الثقة إلى درجة، جعلتك تتجاهل نصائح الجنرالات الذين تعتقد أنهم ليسوا على درجة كافية من الذكاء»؟!

كرة النار تكبر في الميدان وكرة الثلج تكبر في كواليس الادارة الأميركية.