ضريح علي .. وحرب العراق!

TT

وقف المواطنون العراقيون في النجف في مواجهة الجنود الأمريكان، ليقولوا لهم: ادخلوا إلى المدينة حيثما تشاءون، ولكن لا تدخلوا إلى مكان مرقد الإمام علي. ويبدو أن الجنود الأمريكان لديهم تعليمات بمراعاة مواقف كهذه، رغم أن صدام حسين يستغل البيوت والمستشفيات والمدارس، وكافة المنشآت المدنية، ليجعل منها مراكز لأعضاء حزب البعث، وجند صدام، والحرس الجمهوري، يطلقون من خلال أسطحها النيران، فإنه قد استغل أيضاً مراقد الأئمة في كل من النجف وكربلاء، والكاظم، وسامراء، حيث تكدست فيها القوات الصدامية المختلفة، فإذا ما تم تبادل إطلاق النار، وأصيب أي موقع من هذه المواقع المقدسة، عندها سيصرخ الصحاف:

أيها الشيعة!! ها هم العلوج، يضربون رموزكم، وأئمتكم!! ومن غير المستبعد أن يقوم صدام بضرب العتبات المقدسة، ليحقق بذلك أكثر من هدف!! ولكن هذه الألاعيب والأحاييل، لم تعد تلقى صدى أو مصداقية عند شيعة العراق..!!، فهو قد دكّ العتبات المقدسة بالمدافع، للقضاء على الانتفاضة عام 1991، بينما هو اليوم، يجعل من هذه المقدسات أماكن مكتظة بجلاوزته ليستخدمها كحصان طروادة.

على أيّ حال، ليس هذا هو الموضوع الذي فرض نفسه كمدخل لما أنا بصدده!!، إذ ان حادثة النجف، وامتثال القوات الأمريكية، لرغبات المواطنين العراقيين بعدم الدخول إلى مكان مرقد الإمام علي، قد أثارت انتباه الكثيرين..

هاتفني أحد الأصدقاء من أساتذة تاريخ الدراسات الشرقية في جامعة لندن متسائلاً عن مدى صحة وجود قبر الإمام علي في هذه المدينة؟! مستنداً إلى أن الحجاج بن يوسف الثقفي، قام بنبش مئات القبور عندما كان يفتش عن جثمان الإمام في الكوفة!!، وان العلماء اختلفوا في تحديد موقعه، فمنهم من يقول: إنه ـ كرّم الله وجهه ـ قد دفن في قصر الإمارة.. بالكوفة، ومن قائل إنه دفن في جامع الكوفة، حيث المكان الذي قُتل فيه، ومن يقول إنه في باب كندة، وقيل في رحبة الكوفة، وهناك مصادر تشير إلى أنه حمل إلى المدينة، ودفن في البقيع..!!.

ليس هذا فحسب، بل ان هناك من يرى أن قبر الإمام علي يقع بالقرب من كابل في أفغانستان!!.

ويبررون وصوله إلى تلك المدينة، أن جسده ـ كرم الله وجهه ـ قد وضع في صندوق، وحُمل على بعير، واتجهوا به نحو الحجاز، فاعترضهم عدد من قطّاع الطرق، ظانين أن في الصندوق أموالاً، فسرقوه، وفرّوا به إلى مسافة طويلة، ولما فتحوا الصندوق، وجدوا بداخله جثمان الإمام علي بن أبي طالب..!!، فما كان منهم إلا أن فروا من أرض العراق، إلى أن حطوا رحالهم في ذلك المكان من أفغانستان، فقاموا بدفنه هناك..

ومن القصص الأخرى التي تدور حول الاختلاف على موقع قبر الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ أنه طلب من ابنه الحسن أن يضع جثمانه على جمل، ويتركه يسير دون أن يتبعه أحد، فالجمل يعرف طريقه!!.. ويروى ـ أيضاً ـ عن الإمام جعفر بن محمد (الصادق): أن الإمام علياً أوصى ابنه الحسن بما مضمونه:

«بُنيّ.. إذا دفنتني في النجف، ورجعت إلى الكوفة، فاصنع فيّ أربعة مواضع، أربعة قبور:

1 ـ مسجد الكوفة.

2 ـ الرحبة.

3 ـ الغري.

4 ـ دار جعدة بن هبيرة».

أما مصدر اجماع علماء الشيعة على أن قبر الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ في النجف، وفي الموضع الذي هو فيه الآن، فإنهم يستندون الى أخبار متواترة لديهم، مصدرها آل البيت أنفسهم..

فهم أعلم من غيرهم بموقع قبر جدهم، وأجمعوا أنه في النجف، وفي الموقع الذي اشتهر به.. وقد ذكر ابن الجوزي في (تذكرة الخواص) صفحة (163)، اختلاف الأقوال في قبر الإمام علي.. إلى أن قال: إنه في النجف، في المكان المشهور الذي يُزار فيه اليوم، وقد استفاض في ذلك.

وقال خطيب خوارزم في (المناقب)، وخطيب بغداد في (تاريخه)، ومحمد بن طلحة في (مطالب السؤول)، وابن أبى الحديد في (شرح نهج البلاغة)، والفيروزأبادي في (القاموس) في كلمة النجف وغيرهم، ممن لا يتسع المجال للإتيان بما قالوه بشأن موقع قبر الإمام علي..!!.

ولكن أشهر الحوادث التي أكّدت بوضوح، والتي تشير إلى اكتشاف قبر الإمام علي في منطقة النجف بالذات، هو ما وقع لهارون الرشيد يوم خرج للصيد والقنص في وادي النجف الذي يقع في ظهر الكوفة، حيث كانت هناك آجام أصبحت أوكاراً للحيوانات.. يروي هذه الحادثة عبد الله بن حازم، حيث يقول:

«فلما صرنا إلى ناحية الغري، رأينا ظبية، فأرسلنا إليها الصقور والكلاب، فحاولتها ساعة، ثم لجأت الظبية إلى أكمة، فاستجارت بها، وتراجعت الصقور والكلاب، فتعجب هارون الرشيد من ذلك!!.. ثم ان الظباء هبطت من الأكمة، فتعقبتها الصقور والكلاب، فرجعت الظباء إلى الأكمة ثانية.. فتراجعت عنها الصقور والكلاب، ففعلت ذلك ثلاثاً..

وهنا قال الرشيد:

اركضوا إلى هذه الأنحاء والنواحي، فمن لقيتموه، آتوني به».

يقول عبد الله بن حازم:

«فأتيناه بشيخ من بني أسد.. فسأله الرشيد: ما هذه الأكمة..؟!، أجابه الشيخ: إن جعلت لي الأمان، أخبرتك..، فقال له الرشيد: لك عهد الله وميثاقه ألا أهجيك، ولا أوذيك..!!، قال الشيخ: جئت مع أبي إلى هنا، فزرنا وصلينا، فسألت أبي عن هذا المكان، فقال: عندما تشرفت بزيارة هذه البقعة، بصحبة الإمام جعفر الصادق، قال:

«هذا قبر جدنا علي بن أبي طالب، وسيظهره الله تعالى قريباً».

فلما سمع هارون الرشيد ذلك، دعا بماء فتوضأ، ثم صلى عند الأكمة، وجعل يبكي، وتمدّد عليها، وهو ينتحب.. وما أن مرّت فترة من الزمن، أمر ببناء قبة على القبر!!».

ومنذ ذلك اليوم، لم يزل البناء في تطور حتى يومنا هذا، حيث كسيت قبته، ومآذنه بالذهب الخالص، من التبرعات التي تأتي من المسلمين في جميع أنحاء العالم.

بكل أسف قد امتدت الأيادي لمقتنيات النجف، ليؤخذ بعض ما فيها كي يوضع على قبر ميشيل عفلق، وكذلك قبر (أم المناضلين) والدة صدام، التي خصص لها قبراً مهيباً، يزوره الناس، بل والبعض منهم صار يتبرك به.

أما كيف غدت النجف مركزاً علمياً، بعد أن تأسست فيها الحوزة العلمية على يد الإمام الطوسي، فإن لهذا الموضوع حديثاً آخر..!!.. بعد أن توصلت مع صديقي أستاذ تاريخ الدراسات الشرقية في جامعة لندن، إلى ما جئنا به من معلومات عن النجف، علمت أن الصديق السيد عبد المجيد الخوئي، الذي خرج منها فاراً من جحيم صدام (1991)، عاد إليها، محاطاً بالتكريم.. أدركت عندها أن العراق، قد بدأ يخطو خطواته بثبات نحو الحرية، والديموقراطية.. وما هي إلا أيام، ويتنفس العراقيون جميعاً هواء الحرية النقي، بعد أن كان صدام قابضاً على خناقهم.. لأكثر من ثلاثة عقود!!.