هل هي حرب صليبية؟

TT

«أمريكا الاصولية»، ليست هذه عبارة من المقولات الرائجة في الاعلام العربي خلال هذه الايام العصيبة التي تشهد اقسى تبعات الغزو الامريكي للعراق، وانما وردت في افتتاحية احدى الصحف الاوروبية الاكثر اتزانا وعراقة، هي صحيفة «لموند» الفرنسية، التي نبهت في عددها بتاريخ 30 مارس المنصرم الى مخاطر تحول النزاع الراهن الدائر على الساحة العراقية الى حرب دينية وحضارية حقيقية. وقد واصل الاتجاه نفسه «هنري تينك» في الصحيفة ذاتها متسائلا: «ألا نعيش حاليا مواجهة واضحة بين الحرب الصليبية المقدسة والجهاد الاسلامي؟» معتبرا ان خطاب الرئيس بوش واركان ادارته لا يختلف في الجوهر والغاية عن مضمون الخطاب التعبوي الديني للرئيس العراقي ووزرائه. وقد افاضت الصحافة العربية والعالمية خلال الاسابيع الماضية في تتبع الجذور الدينية لسياسة الرئيس بوش الخارجية، كما تعرضت لميوله الاصولية المحافظة والمتعصبة، التي تفسر الكثير من مواقفه في الشأن الداخلي.

ولا يخفي بوش انتماءه الصلب والقوي للكنيسة الاصولية المسيحية الواسعة الانتشار في الولايات المتحدة، واليها ينتمي العديد من المقربين اليه، مثل نائبه ديك تشيني، وآندروكارد رئيس الفريق العامل في البيت الابيض ومستشارته كونداليزا رايس.

ويرجع مذهب الانجيليين الاصوليين الى النزعة البروتستانتية الاحيائية في الجنوب، وهي نزعة شعبوية متعصبة، تؤمن بالاصطفاء والتفوق وتدّعي الحق في نشر وفرض عقيدتها بالقوة، كما تعتمد نظرة مانوية مزدوجة تفصل بين «قوى الخير المشرقة» و«قوى الشر المظلمة والمنحطة».

وقد صعد قساوسة ورموز هذه الكنيسة على المسرح الامريكي بعد احداث 11 سبتمبر، وكان الاسلام والمسلمون الضحية المستهدفة الاولى لنقمتهم، ومن بين من اشتهر منهم «بات روبرستون» و«جوري فالول» اللذان تفوها بكلمات نابية حاقدة ضد الاسلام ورسوله الاكرم صلى الله عليه وسلم. ولكن كان لا بد من الاقرار بهذه الحقائق التي اصبحت معروفة ومتداولة، الا ان تحويل الصراع الدائر حاليا على الجبهة العراقية الى صراع اسلامي ـ مسيحي، كما هي الصورة الرائجة في بعض الكتابات المتسرعة امر يخلو من الدقة، ويبرز عجزا واضحا عن استكناه القاعدة النظرية والآيديولوجية للرهانات الاستراتيجية الامريكية ودور العامل الديني فيها.

فلا بد من الاشارة في البدء ان المرجعية الروحية المسيحية في عمومها وقفت ضد هذه الحرب بدءا من بابا الفاتيكان والكنيسة الانجيلية في بريطانيا انتهاء بالعديد من الرموز المسيحية الكبرى في الولايات المتحدة الامريكية، وبالتالي لا معنى للنظر الى المواجهة الراهنة كفصل متأخر من الحروب الصليبية الوسيطة، حتى ولو كان العامل الديني حاضرا بكثافة في الخطاب التعبوي الامريكي لاغراض وظيفية آنية. ولسنا بحاجة الى التأكيد على ان الرهانات الجيوسياسية في المجتمعات الغربية العلمانية تخضع لاعتبارات المصالح التي لا يشكل الدين فيها عاملا حاسما، وكل وقوع في فخ البراديغم الديني يقنع الابعاد الحقيقية للصراع ويعطيه سمة اخلاقية (ولو كانت واهية وزائفة) تخدم في نهاية التحليل الرؤية الامريكية.

صحيح ان للعلمانية الامريكية ميزاتها المعروفة التي تختلف نوعيا عن خصائص التجارب العلمانية في اوروبا، اذ لا يزال الدين يؤدي دورا اجتماعيا هاما، كما ان المرجعية الدينية العامة حاضرة بكثافة في الطقوس السياسية، وفي مؤسسات السلطة والمال والاعلام.

وقد استغرب الاوروبيون دعوة مجلس الشيوخ الامريكي لاقرار يوم صلاة وصوم بمناسبة الحرب الحالية، كما لم يفتأوا يتندرون على افتتاح بوش لاجتماعات ديوانه ومجلس حكومته بالصلوات واستخدامه للتعبيرات الدينية العتيقة، بيد ان هذه المؤشرات لا تعني ان العامل الديني هو الموجه لقرارات استراتيجية مصيرية في بلد ذي مؤسسات حديثة يحكمها المنطق التقني ـ التجاري، وذي رهانات جيوسياسية كونية. وعلى الرغم من هذه الملاحظة التي يجدر التأكيد عليها، فإن الرمزية الدينية تشكل بعدا ثابتا من مقومات النموذج الامريكي منذ نشأته.

ولقد عبر عن هذا النموذج مؤسس الدولة الامريكية الحديثة جورج واشنطن بقوله في خطاب الاستقلال: «ليس ثمة شعب، اكثر من الولايات المتحدة يتوجب عليه شكر وتقديس اليد الخفية التي تقود شؤون البشر، فكل خطوة قادتها على طريق الاستقلال الوطني، تحمل بصمة القدر الالهي». وعبر الرئيس الاسبق «جيفرسون» عن هذا المعنى باعتباره الشعب الامريكي «شعب الله المختار»، وكرر الرئيس نيكسون المعنى ذاته في نهاية القرن المنصرم بقوله «ان الرب يريد ان تحكم امريكا العالم»، ولا تختلف مقولات الرئيس بوش واعوانه عن هذه الاحالات التي اشرنا اليها باقتضاب.

وكما يقول ادوارد سعيد، فإن التدين الامريكي هو قبل كل شيء «تدين اشراقي نبوئي بيقين لا يتزعزع برسالة ذات طابع قيامي احيانا، مع تغييب دائم للوقائع التفصيلية والتعقيدات».

اي بعبارة أخرى ان الرمزية الامريكية توفر الغطاء التعبوي والقيمي لنموذج متجه بالضرورة وقوة الدفع الموضوعية الى الانتشار والتمدد. فالمنطق الامبراطوري الامريكي يصدر عن فكرة الاصطفاء (التوراتية) والايمان القوي بالخلفية الرسالية، حتى ولو كانت سمته البرغماتية جلية معروفة. وكما بين «بيار هازنار» و«جوستين فايبس» في كتابهما الاخير المهم بعنوان «واشنطن والعالم: اشكالات قوة عظمى» فإن العقيدة الاستراتيجية الامريكية تأرجحت دوما بين سياسة القبضة الحديدية والقوة لنشر «النموذج الامريكي» والتبشير بالنموذج ذاته من خلال التعبئة والاغراء. وقد صنف الكاتبان المدارس الاستراتيجية الامريكية في اربعة اتجاهات هي:

ـ اتجاه الواقعيين الاحاديين: اي الانعزاليين الذين يطالبون بالحد الادنى من التدخل في شؤون العالم، وصوتهم الذي يمثله بات بوكانان خافت اليوم.

ـ اتجاه المثاليين التعددين: المطالبين بتكريس الديمقراطية ونشرها في الخارج عن طريق الحوار والتفاوض. وقد يمثل هذا الاتجاه الرئيس الاسبق كارتر والى حد ما الرئيس السابق كلينتون.

ـ اتجاه الواقعيين التعددين: البرغماتيين الذين لا تهمهم المبادئ والمثل العليا، ولكنهم يعتقدون ان للولايات المتحدة دورا محوريا في شؤون العالم تقوم به خدمة لمصالحها القومية، ويمثل وزير الخارجية الاسبق كيسنجر هذا الاتجاه.

ـ اتجاه المثاليين الاحاديين: الذي يحكم اليوم الولايات المتحدة. ويتعلق الامر بمثاليين يريدون فرض «المثل» الامريكية بقوة السلاح والعنف. وهم في الغالب من فلول اليسار الراديكالي الذي تحول الى النزعة الاصولية المحافظة، ومن ابرز عناصره صقور المؤسسة الحاكمة مثل نائب وزير الدفاع فولفوتز وريتشارد بيرل وروبير كاغان.

ومن الواضح ان هذا الاتجاه يمثل تحولا نوعيا في التوازنات الاستراتيجية الامريكية، وآثاره خطرة على علاقات الولايات المتحدة الخارجية. وقد عبر عن هذه المخاطر وزير الخارجية الاسبق كيسنجر في كتابه الاخير «هل تحتاج امريكا الى سياسة خارجية؟» بقوله: «يحث بعض الامريكيين، مبتهجين بقوة بلدهم على التوكيد الصريح لسيطرة امريكية خيرية، لكن هذا الطموح سيلقي على الولايات المتحدة عبئا لم يستطع اي من المجتمعات تحمله بنجاح لفترة زمنية غير محدودة.. فالاصرار الواضح على التفوق سوف يوحد بالتدريج دول العالم ضد الولايات المتحدة مما سيجعلها في النهاية معزولة ومستنزفة».