خنجر على القلب

TT

القلوب على بغداد ومعها، وعنوان جريدة «التايمز» البريطانية صباح الخميس الماضي يستفز المشاعر العربية والمهنية والانسانية بثمانية أعمدة بالخط السميك:

«الخنجر مصوب لقلب بغداد»، والصحيفة ليست «تابلويد» ولا شعبية، ويفترض الا تكون رخيصة، فهي أعرق الصحف البريطانية وحملت منذ ولدت في القرن التاسع عشر راية التحليل العميق والخبر الرصين.

ولو جاء ذاك العنوان في «الديلي تلغراف» لما كان غريبا، ولا مستهجنا، فلتلك الصحيفة مصالح اكبر مع الجيش البريطاني الذي يحارب في العراق، لكن من قال ان الحرب على العراق تخدم مصالح الجيوش وحدها، ومن ذاك الذي يجرؤ على الافتراض ان الشركات العابرة للقارات، والمؤسسات الاعلامية الكبرى، ليست متورطة بشكل أو بآخر، في افتراس كعكة تتهافت عليها وتقتسمها قبل ان تصبح لها؟!

وتهافت التهافت اعلاميا ان تصل التغطيات والعناوين الى هذا المستوى، وعنوان الخميس ليس الوحيد بين صحف «مردوخ»، فيومياً تطلع «الصن» وشقيقاتها بعناوين أقرب إلى الآراء المستفزة منها الى الاخبار الحربية، في حين ان المعسكر الثاني المتمثل بـ«الغارديان» بين الصحف الرصينة، و«الميرور» بين التابلويد الشعبية، يجاهد ليبرز مع «الاندبندنت» وجهات نظر المعسكر المعادي للحرب.

والصحيفة الأخيرة عندها كنز حقيقي اسمه «روبرت فيسك» تعمد بالنار في لبنان وفلسطين والجزائر، وصنع لاسمه وصحيفته سمعة ناصعة محترمة في شهر تناقصت فيه بين وسائل الاعلام الغربية والشرقية نسب الاحترام والمصداقية.

وفي التلفزيون لم يختلف الوضع فقد كان المراسل الحربي المخضرم «بيتر ارنيت» أول ضحايا الحرب الاعلامية حين فصلته شبكته NBC لتصريحه لتلفزيون بغداد بأن الحملة العسكرية الغازية بدت فاشلة في ايامها الاولى، وهي خطوة استبدادية وغير مقبولة حتى بالمقاييس الدكتاتورية العراقية التي تتحرك كل هذه الجيوش لتضع حداً لها كما يقال في تبرير الغزو والعدوان.

وبعد «أرنيت» طردت شبكة فوكس «جيرالدو ريفيرا» لأنه أفشى أسراراً عسكرية كما قيل، وكل ما كان يفعله هو تطبيق نظرية بوش الأب «رسمت خطاً على الرمال»، فقد كان بالفعل يحاول توضيح بعض نقاط تغطيته بالرسم على الرمل الذي أمامه. وماذا يفعل الانسان في الصحراء غير الرسم على الرمال والتأمل في رسوم القدر والطبيعة؟!

وأين الروائي السوري الراحل هاني الراهب الذي أخذ عبارة بوش الاب، وصنع منها رواية مخيفة ليشاهد كيف صار الرسم على الرمال يتسبب في اغضاب اعلام ديمقراطي، لا تسأل معظم جحافله عن القنابل العنقودية وقذفها على المدنيين في ذات الوقت الذي يحاسب فيه مراسل حربي بسبب خط رسمه على الرمال العربية التي أحرقوها قبل ان تحرقها شمس الصيف هذا العام.

ان تحرك الجيوش بدون ارادة شعبية وبدون شرعية دولية، تراجع كاف عن اساسيات الديمقراطية الغربية واذا صمت عنه الناس في حالة العسكر، فلا يجوز ان يسكتوا عنه مع وسائل الاعلام، فالسلطة الرابعة في الغرب جزء من اللعبة الديمقراطية الكاملة، وحين تُلجم أو يتم ارهابها وتخويفها أو حين تخضع لمصالح مبهمة لأصحاب رؤوس الاموال وشركات الاسلحة وتبدأ بالتعمية بدل التغطية، وبالتحريض بدل التحليل، وبالأمنيات السياسية عوضاً عن الأخبار، فإن الفساد يبدأ بالنخر الحقيقي في جسد ديمقراطية تنهض على عمودين أساسيين: استقلالية القضاء وحرية الاعلام، والباقي تفاصيل ونوافل عندهم وعند غيرهم.

الخنجر ليس على قلب بغداد وحدها بل على قلب الامة العربية كلها، وفي الغرب الخنجر على بعد بضعة سنتيمترات من قلب الاعلام الحر ـ أو الذي كان حراً ـ فاللغة الاعلامية في بعض المنابر الاميركية والبريطانية انحدرت الى مستويات عدوانية وحاقدة كان يصعب التفكير فيها قبل اسابيع قليلة من هذا التاريخ.

إن اللغة كما يفترض عالم الاجتماع الفرنسي اميل دور كايم ليست من صنع الافراد انما هي نتاج تلقائي لحياة الجماعة، واهتماماتها الفكرية والتاريخية ومقتضيات التطور والعمران، وهؤلاء المخربون الذين يضعون هذه العناوين الارهابية لا يمثلون انفسهم فحسب، بل شريحة كبرى تتفرج وتستعجل وتتشفى لتصرح ألسنتها وأقلامها بما تخفيه الضمائر.

وكما تدل بعض سقطات اللسان على ما يجول بالعقل الباطن لقائلها حسب تحليلات علماء النفس والاجتماع، فإن هذه (العناوين السقطات) تكشف ما هو كامن تحت السطح من أحقاد نائمة.

ان الدفاع الوحيد عن عنوان «التايمز» مهنيا ان يقال انه ليس من اختراعها بل جزء من جملة وردت من الدوحة على لسان فنسنت بروكس، الناطق باسم القوات الغازية، وحتى هذا الدفاع يبدو منهاراً، فمتى كانت الأقوال الجارحة والعدوانية ملزمة الا عند من يتحول الى بوق لترويجها مضطرا، فما بالك بمن يتبناها فرحاً على سبيل المثال.

الخنجر على قلب بغداد، سواء غاص في لحمها أو بقي حيث هو، فإن النوايا توضحت وكشفتها لغة الغزاة واعلامهم واساليبهم وراياتهم وزلات اقلامهم وألسنتهم، وكلها لا تشير الى محررين، ولا الى حرية، بل الى عدوانيين وعنصريين وحاقدين وساديين تدفعهم المطامع، وتغذيهم غرائز الانتقام، وتحركهم الاحقاد المتراكمة عبر العصور.

ان قصف مكتب قناة أبوظبي، واستشهاد الزميل طارق أيوب من مكتب الجزيرة امس وقصف الصحافيين الغربيين في فندق فلسطين، وحدوث ذلك كله في يوم واحد لا يترك ادنى شك في ديمقراطية القوات الغازية وحرصها على الاعلام الحر بدليل استهدافه من المنبع للمصب بالفصل والطرد والتشويه والتشفي وأخيراً بالصواريخ والقنابل الحارقة.