من قتل اسحق رابين (1)

TT

عندما قتل اسحق رابين العام 1995، جاء الى حضور جنازته اربعة من رؤساء اميركا. وجاء رؤساء اوروبيون كثيرون. وبدت المسألة على انها جنازة لرجل عسكري اتخذ السلام خياراً له في هزيعه الاخير. لكن ذلك الجمع من الناس كان يدرك بالتأكيد انه قادم الى حضور جنازة السلام نفسه كخيار اسرائيلي. ولم تنتظر ليا رابين ان يدفن زوجها لكي تعلن «انهم قتلوه»، وان بنيامين نتانياهو هو الشقيق المحرض كما في رواية «الاخوة كارامازوف». اما ييغال عمير فلم يكن سوى «الغبي المفيد»، والمنفذ الاحمق ايضاً كما في الرواية نفسها.

ما علاقة مقتل اسحق رابين بما يحوط بنا اليوم؟ لا تقبل السياسة نظرية الفراغ ولا الجمود. انها حركة دائمة لا تنام. صلة بين الماضي والمستقبل تستخدم الحاضر كمجرد جسر متنقل للعبور من مرحلة الى مرحلة. وليس في السياسة شيء او عمل معزول. ولا هناك اعمال عفوية. ولا تترك الدول والامم المستقلة مصيرها للغفلة او النوم. وكان نابوليون يقول انه مستعد للتضحية بمليون رجل من اجل قطعة من الارض. لأن الذي يقطع انفك اليوم يطلب ذراعك غداً. ويدَّعي ملكيته لعينيك بعد غد.

جاء رؤساء اميركا الاربعة وجاء رئيس روسيا وجاء رئيس فرنسا، لأنهم ادركوا ان ييغال عمير قد اطلق الرصاصة على الحل في الشرق الاوسط: «لا سلام مقابل الارض» بعد اليوم. بل فكر اسرائيلي ـ اميركي جديد، يرفس السلام في الهواء، ويستعد للقتل والموت، ويقرر ان اسرائيل محاطة ومحاصرة باعداء لا يريدون السلام، ولذا يجب عليها ان ترفضه اليوم وغداً، وان تقطع (وليس فقط ان تسحب) اليد التي مدت الى سوريا والى الفلسطينيين. العام 1996، بعد عام على اغتيال رابين، تم سياسياً اغتيال شمعون بيريز في قانا. وجاء بنيامين نتانياهو بنفسه الى الحكم.

اذن، انه العام 1996. ماذا حدث العام 1996؟ في يونيو (حزيران) من ذلك العام اصدر «معهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة» في اميركا تقريراً بعنوان: "نقطة فاصلة: استراتيجية جديدة من اجل ضمان المُلك" وقعه عدد من كبار صناع السياسة الاميركية، يتقدمهم ريتشارد بيرل، رئيس «مجلس الدفاع الوطني» الذي استقيل قبل ايام، في ما بدا انه نهايته السياسية. اما العنوان الفرعي للتقرير فكان «دراسة حول سياسة اسرائيلية جديدة نحو العام 2000».

بكلام اكثر وضوحاً، كان ريتشارد بيرل، وفريقه، يحاولون ان يضعوا خطوط استراتيجية اميركية اسرائيلية متداخلة، او غير منفصلة، ليس فقط حيال الوضع في فلسطين، بل حيال الشرق الاوسط برمته. فلا شيء معزولاً في السياسة. ولا شيء منفصلاً في الاستراتيجيات. وثمة عدد كبير من الاميركيين الفاعلين يتبرعون للتفكير مع اسرائيل او عنها او من اجلها، وفي كل ما تستطيع اميركا ان تفعله في سبيل ذلك.

من عجَّل في نهاية ريتشارد بيرل؟ عندما ينظر القبيح الى المرآة لا بد ان يرى رجلاً قبيحاً. اي ان اكثر من اودى بالمستر بيرل هو ريتشارد بيرل نفسه، واعماله، وسيرته. لكن ثمة دوراً لعبه رجال عرب، وهو دور غير بسيط. وقد يظل مجهولاً، لأن بيرل خرج من الصورة ولم يعد مهماً حتى بالنسبة الى اللوبي الاسرائيلي.

لكن لا بدَّ من العودة الى التقرير الذي حمل اسمه العام 1995. من خلال قراءته الآن، مع استعادة الاحداث التي مرت بنا ومع تأمل ما يجري في المنطقة اليوم، يمكن ان نقول ان الذي قتل اسحق رابين هو ريتشارد بيرل، وعقله، والعقول المشابهة التي وقعت على التقرير. لقد رأى هؤلاء في مقتل رابين الفرصة الكبرى لاخراج اسرائيل من خيار السلام، ربما الى النهاية. ولكن من اجل حماية خيار العداء المستمر، لا بد من اضعاف العالم العربي من حولها. كيف ومَن؟

الى اللقاء