هم ونحن

TT

بالاضافة الى القتل والدمار واليتم والثكل الذي خلفه العدوان السافر على المدنيين الأبرياء في العراق، فقد افرز هذا العدوان معطيات فكرية وقومية واخلاقية وسياسية لا بد من التفكير بها مليا ومعالجتها، لما لها من تأثير على مكانة العرب ودورهم المستقبلي في الحضارة الانسانية، لقد تبين من خلال هذه المعطيات ان حياة امرأة عربية لا تساوي حياة امرأة غربية، وان قيمة طفل عراقي لا تقارب قيمة طفل غربي، وان بيتا عراقيا عريقا توارثته الاجيال لمئات السنين لا يساوي شقة عادية في أي عاصمة غربية. وقد تبين اول ما تبين ان الارهاب الذي انبروا لمحاربته بعد الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001 له تعريفان حسب الموقع والمكان، فقيام عصبة من الاشخاص بضرب برجين يعمل بهما مدنيون اعتبرت جريمة ارهابية استحقت ادانة العالم برمته، اما قيام القوات العسكرية الرسمية لدولة عظمى بقصف وزارة الاعلام والمتاحف ومحطات التلفزة والاسواق الشعبية والمساكن الشعبية ودور العبادة والمشافي، حيث يعمل المدنيون او ينامون في منازلهم آمنين، فإنه اما «هدف مشروع» أو «خطأ متوقع» أو «أمر مؤسف». والفاعل في قضية البرجين ارهابي تقضي كل القوانين والشرائع بملاحقته وقتله. اما الفاعل في الحالة الثانية فجنرال أو رئيس هيئة اركان يقوم بواجب وطني موكل اليه.

ومن ضمن هذه المعطيات فإن عرض مدنيين عراقيين أو فلسطينيين معصوبي الاعين ومكبلي اليدين، باعتبارهم أسرى حرب على تراب بلادهم، يصبح أمرا يفخر به الاعلام الرسمي الامريكي الاسرائيلي والغربي عموما، أما عرض اسيرين امريكيين وهما مطلقا اليدين يحتسيان الشاي في بلد يبعد عن بلدهما آلاف الاميال تعتدي عليه القوات التابعة لها فهو امر ينافي ويخرق اتفاقية جنيف. وهكذا يصبح استخدام الاسلحة المحظورة من قنابل عنقودية، وقذائف يورانيوم، وغازات قاتلة، لقصف المدن، أمرا يجيزه الناطقون بلسان وزارة الدفاع الامريكية ويفخر به الجنرالات والسياسيون. أما استخدام العراق لصواريخ يتجاوز مداها مائة وخمسين كيلومترا فهو خرق للقوانين الدولية.

حين أصر المفتشون ان العراق يتعاون معهم لنزع اسلحة الدمار الشامل فإن الجواب أتى بأن هذا التعاون غير ايجابي أو غير كاف أو غير فوري. اما الاسرائيليون فإنهم يمتنعون عن السماح بأي تفتيش دولي لمنشآتهم النووية وتصمت عنهم كل اجهزة الاعلام الامريكية والبريطانية ويطبق صمت القبور على أفواه الناطقين باسم الحكومات والمنظمات الدولية المعنية بأسلحة الدمار الشامل. وحين لوحت فرنسا باستخدام حق النقض ـ «الفيتو» ـ في مجلس الامن لمنع الحرب على العراق احتجت واشنطن على سوء استخدام «الفيتو»، بينما كانت واشنطن ذاتها قد استخدمته ثماني وثلاثين مرة في مجلس الأمن فقط لمنع ادانة جرائم الحرب الاسرائىلية، مثل مذابح صبرا وشاتيلا وقانا وجنين، وحتى لمنع ادانة قتل اسرائيل لموظفي الأمم المتحدة، ولمنع ارسال قوات دولية لحماية الشعب الفلسطيني من البطش والارهاب الاسرائىليين.

وتعبر واشنطن ولندن عن استيائهما من تغطية وسائل الاعلام العربية للحرب في العراق لانها تنشر صورا واخبارا تفضح أطنان الاكاذيب التي تقصف بها وسائل الاعلام الرسمية الامريكية رأيها العام، في حين ان وسائل الاعلام العربية تنشر وتنقل وبشكل شامل ومباشر كل تصريحات بوش وبلير والناطقين الرسميين والمؤتمرات الصحفية للناطقين العسكريين الامريكيين والبريطانيين، بينما تمتنع وسائل الاعلام الامريكية والبريطانية عن نشر ونقل الاخبار والصور من المصادر العراقية والعربية وتتصرف وكأنها وسائل اعلام رسمية للحكومات الحالية في واشنطن ولندن، وتعمد الى تغطية جرائم الحرب ونشر الاكاذيب والعداء للعراق.

وفي المنحى ذاته حذر الرئيس بوش الجنود العراقيين من استخدام الاسلحة الكيمائية، وانهم سوف يحاكمون كمجرمي حرب اذا فعلوا ذلك حتى ولو صدرت لهم الأوامر بفعل ذلك. ولكن هل ينطبق هذا على الطيارين الامريكيين والبريطانيين الذين يقصفون سيارات الاسعاف والمشافي وباصات نقل الركاب، أم ان جنسية الضحية هي التي تحدد ما اذا كان العمل المرتكب ارهابا أو جريمة حرب أم لا؟

لقد احتفلت وسائل الاعلام الامريكية باطلاق سراح الاسيرة الجندية الامريكية جيسيكا لينش، ومن الواضح انها لم تتعرض حتى لكلمة نابية، ولكن ما هو مصير التسعة آلاف أسير عراقي، والعشرة آلاف أسير فلسطيني، الذين يمثلون خيرة الشباب العربي العراقي والفلسطيني المقاوم، وهل تعاملهم الولايات المتحدة واسرائيل بالطريقة التي عامل بها العرب أسراهم عبر العصور؟

ان احد الاسباب التي مكنتهم من خلق منظور خاص بهم وآخر لنا اقل شأنا بكثير، هو انهم يبحثون دوما عن نقاط اللقاء بينهم ويتناسون مناطق الخلاف، ويعملون على مساحة الارضية المشتركة بينهم مهما ضاقت هذه المساحة، اما العرب فيتجاهلون القواسم المشتركة بينهم، وحتى المصالح الأكيدة التي تجمع بينهم، ويركزون على رقعة الخلاف حتى تصبح الدائرة الوحيدة التي يرون بعضهم من خلالها. أوليس بين الدول العربية من قضايا مصيرية حقيقية تجمعها اكثر مما يجمع بين دول «الناتو»، وحتى الاتحاد الاوروبي؟ انظروا كيف تجاوزوا خلافات حادة بينهم واجتمعوا وتفاوضوا وتناقشوا واختلفوا ولكنهم استمروا في الأخذ والعطاء، وبقيت الحكومات العربية، كلُُ ُ في اطاره، وضمن منظوره وحدوده ورؤيته، يستسهل الآخرون هضم حقوقه ويأبون اعتباره في منزلة تماثل منزلتهم. كي نصبح نحن في مصافهم يجب ان نعامل بعضنا كما يعاملون بعضهم، باحترام وجدية وصدق وشفافية. عند ذاك لن يتمكنوا من تطبيق معايير مختلفة على شعوبنا وأمتنا ومستقبل أجيالنا.

*كاتبة سورية