ترطيب الأجواء لتلافي المواجهة

TT

كان غزو العراق من لدن التحالف الأميريكي بقرار انفرادي رغم معارضة أغلبية العالم قنبلة انشطارية أصابت شظاياها المحرقةُ المنظماتِ والمؤسساتِ الدولية، وجميع القوى السياسية عبر العالم، وأحدثت كسورا في النظام العالمي القائم، وفي الأوعية العاملة في الحقل السياسي والدولي ولم يسلم أي نظام أو تنظيم من إصابتها.

انكسر الوعاء المسمى بالاتحاد الأوروبي كما انكسر وعاء حلف شمال الأطلسي. ووقع زلزال في أرضية منظمة الأمم المتحدة. وأصابت الشظايا الجامعة العربية وهددت بنياتها بالتداعي للسقوط، ولم يُفلِت ولا قطب واحد منها.

وستطول على المستوى السياسي والاقتصادي العالمي قائمة الكسور والاهتزازات. وسيظهر ان هذه الحرب ـ وان لم تكن عالمية بحكم اقتصارها على فضاء العراق ـ فإن آثارها الوخيمة عمت العالم من أدناه إلى أقصاه مثلما عمقت جروح القواعد الشعبية عبر العالم. ولن تندمل هذه الجروح بسهولة.

ويظهر أن أقطار جبهة معارضة الحرب قرروا تجاوز الانتظار إلى حين نهاية الحرب وأخذوا من الآن يتهيؤون للقيام بمبادرة ما تزال محتشمة لترميم الأوعية المكسورة داخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي على الأقل، وبادروا الى العمل على ترطيب اجواء (على حد تعبير الجامعة العربية) العلاقة بينهم وبين الولايات المتحدة بهدف الخروج بأزمة هذه العلاقة من مأزقها الى التخفيف من حدة التوتر، تمهيدا لاحداث انفراج يساعد على تلافي المواجهة مع الولايات المتحدة. والأقطاب المشار إليهم لا يرغبون في مواجهة الولايات المتحدة لأنهم لا يملكون لا منفردين ولا مجتمعين وسائل الخوض في مغامرتها. ولأن مجرد التفكير فيها يرفضه بجميع الاعتبارات منطق الواقعية السياسية.

إن تفوق قطبية الولايات المتحدة على الأقطاب بفضل امتلاكها القوة العسكرية التي لا تغالب امسى امرا واقعا بديهيا من باب «السماء فوقنا» كما يقال. لكن أقطاب فرنسا وروسيا وألمانيا وإلى حد محدود الصين تحدوا هذا الواقع ورفضوه وصمدوا في وجهه في الحرب الديبلوماسية التي كان مجلس الأمن مسرحها طيلة الاجتماعات المتوالية التي عقدها لبحث ضرب العراق. وفي هذه المعركة سجل الاقطاب المذكورون نصرا على الولايات المتحدة بقطعهم الطريق عليها لإضفاء الشرعية على حرب العراق التي كان البيت الأبيض قد اعتزم شنها بقرار انفرادي لا رجعة فيه.

وقد خسرت الولايات المتحدة هذه المعركة عندما لم تحصل من مجلس الأمن على قرار التفويض والإنابة عن الأمم المتحدة لغزو العراق، وعندما لم يلتحق بالتحالف الحربي ضد العراق إلا دولتان هما إنجلترا وأستراليا، علما بأن مشاركة هذه الأخيرة كانت رمزية لا غير، وعندما ناهضت غزو العراق بقية دول العالم والقواعد الشعبية العالمية التي لا تجتمع على ضلال والتي لم تنقطع الى اليوم مظاهراتها المندِّدة بشن الحرب على العراق والمطالِبة بإيقاف الحرب والعودة إلى تحكيم المنظمة الأممية.

وإن دخول الولايات المتحدة هذه الحرب بدون توفرها على الشرعية والمشروعية، واعتبار سلط المواطنة العالمية هذه الحرب حربا غير عادلة بل لا أخلاقية، وهزال حجم التحالف مع الولايات المتحدة التي كانت تريده أكبر وأضخم من التحالف السابق الذي خاض مع الرئيس بوش (الوالد) حرب الخليج الثانية سنة 1991، كل ذلك انتقص من هيبة الولايات المتحدة حتى لا نقول انه اوقع بها اهانة لم تحتملها، وأدى بها الى ان تتحمل بصعوبة معاناة قاسية لم تكن تتوقعها، وأصبح لزاما عليها ان تتعامل بواقعية مع موقف العالم الرافض لقطبيتها الأحادية.

لم يكن لأقطاب جبهة معارضة الحرب أدنى شك في أن الولايات المتحدة ستجبر كسرها الناتج عن قرارها الانفرادي بالانتصار المرتقَب على العراق. لأنه لا يُعقل أن تنهزم ـ وهي تملك أسلحة الانتصار الشامل ـ حتى لو تبين أن العراق استعمل في الدفاع عن نفسه وسلاحه أسلحة التدمير الشامل الذي يبدو لحد الآن أنه لا يملكها. وقد أكد ذلك الرئيس صدام نفسه اخيرا في حديث صحفي وكان حاسما وجازما نفى فيه ان يكون العراق يمتلك أسلحة محظورة وأنه يفكر في استعمالها.

من أجل ذلك كله يبدو ان الاجتماعات التي ضمت في الأسبوع المنصرم وزراء خارجية فرنسا وروسيا وألمانيا قد طرحت موضوع وضع حد للحرب الديبلوماسية التي استنفدت أغراضها والشروعَ في مرحلة ترطيب الأجواء تمهيدا لترميم ما كسره قرار الحرب الأميريكي الانفرادي من أوعية.

يُستخلَص ذلك مما ورد في التصريح الذي أفضى به كل من وزير خارجية فرنسا وألمانيا من جهة، ووزير خارجية روسيا من جهة أخرى. وجاءت التصريحات الثلاثة في صيغة واحدة يظهر أن الأقطاب اتفقوا عليها وهي تقول: «إننا نتمنى انتصار الولايات المتحدة على العراق لأنها حليفتنا وأن يتغير النظام العراقي لفائدة الشعب». وجاء مثل ذلك على لسان المستشار الألماني. والتصريحات الثلاثة المتفقة في الدلالة والمدلول «باقة زهور» بعثها الأقطاب الثلاثة إلى البيث الأبيض ومعها بطاقة دعوة مشفَّرة للمصالحة في انتظار بعث رسائل تهنئة إلى الرئيس «بوش» عندما يتم انتصاره المرتقَب على النظام العراقي.

يتأكد أن الوزير الأول البريطاني «طوني بلير» لعب دور الناصح الأمين للأقطاب الثلاثة كي يطرحوا قفاز الحديد من أيديهم ويمدوا الى الولايات المتحدة يدا ناعمة تدعو إلى التصالح وطي صفحة الماضي. وهي مبادرة منه إلى ترميم الكسور بين الأقطاب الثلاثة وبين الولايات المتحدة في الظاهر، لكنها تدخل ـ في باطن الأمر ـ في نطاق بدء ترميم الكسور التي أصيب هو نفسه منها بتغريده خارج سرب الاتحاد الأوروبي وارتمائه في أحضان الولايات المتحدة. وهو ما لم يفهمه الشعب البريطاني، ولم تقبله أغلبية المجلس العموم إلا بعد معاناة ومخاض طويل، وبعد أن أرفقه الملجس بتوصية زعيم حزب العمال بأن لا يبتعد عن فضاء الاتحاد الأوروبي، ويلقي بنفسه بعيدا في سواحل البحر الأطلسي ومرافئ الولايات المتحدة في تبعية مطلقة إن قبلها البريطانيون على مضض فإنهم يريدونها مشروطة وغير دائمة.

والوزير البريطاني نفسه لا شك في أنه لا يرتاح في قرارة نفسه إلى تفرد الولايات المتحدة بالقطبية العالمية ويفضل عليها التعددية القطبية التي تحتل فيها بلاده موقع الحليف الند، وليس موقع التابع المطيع. وهمه الشاغل هو أن يتم رتق الفتق بين الولايات المتحدة وسائر الأقطاب. وهو يُمنّي هؤلاء الأخيرين بقدرته على لعب دور المروضِّ الماهر الذي يداعب الأسد الهصور المجروح بلمسات ملطِّفة لطبعه الجَموح، ليعود به إلى القبول بالتعايش مع نظرائه الأسود عسى أن يحمله على التقرب من جديد من الأمم المتحدة وقبوله إسناد دور إليها في إعادة تنظيم العراق سياسيا وإعادة إعماره اقتصاديا.

وهذا هو محور الرسالة التي جاء يحملها «طوني بلير» إلى قمة يوم الاثنين الأخير من هذا الاسبوع التي انعقدت بينه وبين الرئيس «بوش» بإيرلندة الشمالية ومعها رسالة الإلحاح على فتح أبواب التفاوض على خريطة الشرق الأوسط في أسرع الآجال.

وقد أخذت جبهة الأقطاب تبدي المرونة في التعامل مع الولايات المتحدة بعد أن التقوا فيما بينهم على العمل بنصيحة «بلير» من أنهم يمكن أن يدركوا بالرفق ما يعجزون عن إدراكه بالعنف، وخاصة في موضوع تقاسم كعكة العراق التي ما يزال صقور البيت الأبيض مصرين على ألا يتقاسمها معهم إلا حلفاؤهم المنتصرون في حرب العراق. أما الغائبون ولو كانوا أقطابا فلا حق لهم فيما لم يكِدُّوا على السعي إليه.

وكان القطب الروسي تجاوز هذا المدى إلى لعب دور الوسيط في عملية جبر الكسور التي أصابت علاقات الولايات المتحدة بكل من فرنسا وألمانيا وبلاده (روسيا)، والأمم المتحدة، مما جعل منه منافسا للوزير الأول البريطاني، ومؤهَّلا لأن يصغي إليه الرئيس الأميريكي الذي أوفد إليه مستشارته الخاصة «كونداليزا رايس». إلا أن قصف الأميريكيين لسيارة سفير روسيا بالعراق جعل روسيا تتوقف مؤقتا عن متابعة مبادرتها. ويبقى مع ذلك أنه ـ ولو عادت روسيا إلى عرض وساطتها بعد انقشاع سحب علاقاتها مع الولايات المتحدة ـ فإن «بلير» يبقى له أوفر الحظوظ لينجح في مهمة الوساطة أكثر مما لـ «بوتين» لأن «بلير» أعطى كل ما يملك لدعم خطة «بوش» العسكرية، ووفى لتعهداته بالمشاركة في الحرب وتورط فيها عسكريا وسياسيا وأصيب بكسورها، ولأن الرئيس «بوش» أدرك أنه لا غنى له عن الاستفادة من تجربة بريطانيا العظمى الطويلة التي تعرف منطقة الشرق الأوسط أكثر من أية دولة أخرى. وتستطيع أن تقدم له من النصائح ما يجبر به الكسور التي أصابته من خوض الحرب على العراق التي كانت حرب تحد وجرت على غير ما كان الرئيس يتوقعه، مما أوقعه في ورطة كم هو في حاجة للخروج منها إلى نصح الصديق البريطاني الخبير!

ويبدو أن الوزير البريطاني الأول قد نجح في حمل الرئيس الأميريكي على إعادة ترتيب أوراقه في لعبة احتواء منطقة الشرق الأوسط، وجَعَله يدرك أن اعتماده على «خبرة» إسرائيل وحدها لا يفيد، مما يعني أن إسرائيل أصبحت تحتل في ترتيب أهل الخبرة عند الرئيس «بوش» الرتبة الثانية بعد الحليفة بريطانيا. ولا أدل على ذلك مما جاء على لسان الرئيس «بوش» خلال الأسبوع المنصرم من أنه يريد من الأطراف المتنازعة في الشرق الأوسط ان تتقبل «خريطة الطريق»، لا ان يُفِرغها البعض من محتواها بإدخال عشرات التعديلات عليها (في إشارة إلى إسرائيل).

هكذا نرى أن السياسة تمحصت في هذا القرن أكثر من كل وقت مضى لخدمة المصالح على حساب المبادئ والأخلاق. ولكل عهد دولة ورجال لا تختلف بينهم الوجوه ولكن فقط ألوانها.