فرح الأحزان

TT

فقط في العصر الصدامي، يمكن للفرح أن يكون حزينا، مشاعر مختلطة لا يشبهها من المشاعر شيء، راودني نفس الشعور بقوة، وأنا أشاهد القوات الدولية تدخل مدينة الكويت محررة عام 1991، وقتها تجمعت كل مشاعر الفرح، ومشاعر الحزن، الكويتيون والعراقيون فقط عايشوا هذه المشاعر، فرحت لتحرير بلادي، وكنت حزينا لأن من احتلها كان عربيا، وفرحت لتحرير العراق، وكانت مشاعري خليطاً من الفرح والذهول الذي لا يخلو من الحزن، فرحت أشد الفرح، لليوم الذي سقط فيه الطاغية، وبدأ العراقيون يتنسمون عبق الحرية، وحزنت لمن ماتوا ـ وهم بالآلاف ـ في سبيل الوصول إلى ذلك اليوم ـ التاسع من أبريل عام 2003م، وكان حزني شديدا للحالة التي أوصلنا لها الطغاة، حتى أصبح الترحيب بالأجنبي في عواصمنا العربية أمنية تتمناها عواصم عربية عديدة.

كنت متأكدا من نهاية الطغاة، لم يساورني شك بأن «من عاش بالسيف، سيموت بالسيف»، وكنت أدرك أن جيوش الطغاة لا تجيد سوى قمع شعوبها، لم أكن متفاجئا بالانهيار المفاجئ لنظام الطاغية ـ صدام حسين ـ يوم الأربعاء الماضي، ولم أكن ممن رأوا في سقوطه المفاجئ هزيمة للعراق ولا للعرب، ذاك السقوط، هو سقوط الطغيان، فالعراق يعرف أن يكون العراك حين يكون عادلا ومنصفا، لم أشعر بالإهانة لانهيار جيش صدام، فذاك الجيش لم يكن جيشا عراقيا ولا صلة له بالعروبة وطموحاتها، وذاك النظام لم يكن على صلة بشعبه وواقعه، فكان الانهيار حتميا من دون شك.

شعرت بالشفقة على كل من راهنوا على الطاغية، وتعاطفت مع المنظرين والمحللين العسكريين والاستراتيجيين وكل المفلسين واليائسين الذي راهنوا على الوهم، وردّدت بقناعة: «من يزرع الوهم، يحصد الخيبة».

أدرت المحطات الفضائية التي «لعلعت» في حراج الوهم، فوجدت بعضها لا يزال ينتظر المعجزة، وبعضها الآخر غيّر برامجه وبدأ يبث برامج ثقافية، لقد تخلوا عن شعب العراق الذي ردّدوا كثيرا أنهم معه وليسوا مع الطاغية، وها هو شعب العراق اليوم موجود وباق بدون طاغية وأحوج ما يكون إلى مد يد العون ومداواة الجراح وهي كثيرة وعميقة وملتهبة.

أعدت تساؤلات كنت قد طرحتها في كتاباتي: ترى، هل كان الواهمون يعتقدون ـ حقا ـ بإمكان انتصار الطغيان على منطق الحق؟ أم أن هناك من يريد أن يزيد إحباط الأمة ويدفعها نحو العدمية والقنوط؟

تصفحت الصحافة الكويتية، فوجدت صورا لأطفال عراقيين أصيبوا في حرب تحرير بلادهم وجاءت بهم الكويت للعلاج في مستشفياتها. «هذه دعاية كويتية رخيصة»، قالها المزايدون. ولو لم تقم الكويت بذلك لقالوا «هذه لا مبالاة وعدم اكتراث وشماتة كويتية لما حلّ بالعراق».

ينفض العراق اليوم عنه غبار الدكتاتورية البغيضة، ويتطلع نحو الحياة من جديد، ولا وقت لديه للتباكي على الوهم، فالأحداث تتسارع، وكل يوم يمر يمكن أن يكون لبنة لبناء المستقبل، أو كبوة نحو الدخول في الفوضى وعدم الاستقرار. وأمام القوى العراقية المختلفة مهام تاريخية صعبة ومعقدة، أولها القدرة على التسامي فوق خلافاتها، والبرهنة على التضامن في ما بينها، فالعالم أنظاره مشدودة كلها نحو العراق كي يبدأ صفحة جديدة من التعايش والاستقرار والديمقراطية، وليثبت للعالم كله أننا أمة تستحق الحرية، وشعوب تستحق الحياة، وأننا إذا ما تخلصنا من الطغاة والوهم، فسوف ننهض ونعيش كباقي الشعوب المزدهرة والمستقرة.