الحرب على العراق .. أسبابها ونتائجها

TT

لا يختلف اثنان في عالمنا العربي بأن مواقف الادارات الامريكية المتعاقبة منذ عهد الرئيس ترومان في اواخر اربعينات القرن الماضي، من قضية فلسطين العربية وما آلت اليه نتيجة للاطماع والمؤامرات الصهيونية فيها، كانت السبب والبداية في تولد مشاعر العداء والكراهية تجاه الولايات المتحدة لدى ابناء الوطن العربي في مختلف اقطارهم.

فاذا نظرنا للناحية التاريخية، فإنه لا يوجد اي اسباب او خلفيات تبرر تولد مثل هذه المشاعر في العقود التي سبقت بروز القضية الفلسطينية.

فالولايات المتحدة لم يكن لها سوابق تدخل في شؤون دول وشعوب المنطقة العربية او تجارب استعمارية اسوة بانجلترا وفرنسا وايطاليا. بل لقد كانت مشاعر المواطنين العرب تجاهها في اعقاب الحرب العالمية الاولى تتميز بالمودة والاعجاب بهذه الدولة الفتية والغنية بثرواتها وثقافتها ومكانتها الاقتصادية والسياسية والعلمية في عالم ما بعد الحرب.

ومما كان يساعد في تولد مثل هذه المشاعر المحبذة للولايات المتحدة الجامعتان الامريكيتان في بيروت والقاهرة وما لعبتاه من دور في تخريج عشرات الآلاف من خيرة المثقفين العرب.

كما ان علاقتها التاريخية بالمملكة العربية السعودية كانت متميزة الى حد كبير نتيجة لما قامت به بعثاتها الاستكشافية من دور في استخراج ثروة المملكة البترولية في السنوات التي سبقت نشوب الحرب العالمية الثانية. وقد توجت هذه العلاقة بالوعد الذي قطعه الرئيس فرنكلين روزفلت للعاهل الكبير الملك عبد العزيز رحمه الله، اثناء اجتماعهما بالبحيرات المرة بمصر عام 1945، بأن لا يتم اي تغيير في الوضع القائم بفلسطين العربية ما دام على قيد الحياة.

الا ان طبيعة العلاقات العربية ـ الامريكية سرعان ما اخذت في التحول نحو الأسوأ عندما تولى الرئيس هاري ترومان منصب الرئاسة في الولايات المتحدة بعد وفاة الرئيس روزفلت وتبنيه لقضية تقسيم فلسطين، ثم اعترافه الفوري بدولة اسرائيل عند اعلانها في عام 1948، وهكذا اخذت مشاعر ابناء البلاد العربية عموما تتأجج نحو الولايات المتحدة من سيئ الى أسوأ تبعا لتطور الاحداث السياسية والعسكرية في المنطقة كحرب حزيران في عام 1967 وحرب اكتوبر في عام 1973، ويمكن استثناء موقف الولايات المتحدة اثناء رئاسة ايزنهاور بسبب موقفها المشرف من الاعتداء الثلاثي على مصر في عام 1956.

* أحداث 11 سبتمبر

* ألقت احداث 11 سبتمبر المفجعة بظلالها القاتمة على كامل المنطقة العربية وعلى العالم الاسلامي بوجه عام. ويمكن اعتبار ما تلا هذه الاحداث من تداعيات مؤشرا جديدا الى ما يمكن ان تصل له العلاقات العربية ـ الامريكية من انحدار نحو الهاوية.

فبالرغم من ان هناك الكثير من التساؤلات حيال ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم وفق ما اوردته مصادر عدة منها كتاب «الحرب على الحرية» (مما يرجح ما سبق ان نوه عنه احد كبار المسؤولين في المملكة) الا انه كان المؤشر لانطلاقة اكبر حملة اعلامية عايشها العالم منذ عقود طويلة على العالمين العربي والاسلامي وذلك بقيادة الرئيس الامريكي جورج بوش ومعاونيه والشخصيات الكبرى في الكونجرس والقوات المسلحة والاوساط الاعلامية ـ السياسية المختلفة. وقد انضم لهذا الانجراف الاعلامي والسياسي الصاخب معظم القيادات السياسية في العالم العربي.

وقد استغل عدد من الزعماء الاسرائيليين هذا الحدث الهام بصورة كبيرة، اذ ظهر عدد منهم على المحطات الفضائية الدولية بصور متلاحقة للتعليق عليه ووضعه في ذات الاطار الذي تعاني منه اسرائيل ألا وهو ان الانتفاضة الفلسطينية وتداعياتها ليست سوى عمليات ارهابية لا تختلف عما حدث في نيويورك وواشنطن. اما رئيس الوزراء الاسرائيلي شارون فقد ظهر على الـ «سي. إن. إن» بعد اقل من ساعة من انفجارات نيويورك وتبجح قائلا: ان ما عانيتم منه في الولايات المتحدة هو عين ما نقاسي منه هنا. فأطلقوا خناقنا ودعونا نتصرف بحرية بالصورة التي يستحقها هؤلاء الارهابيون ممن يهددون أمننا وحياتنا، وقد تكررت نداءاته في ما بعد الموجهة للادارة الامريكية: متى تشنون الهجوم على العراق؟.

وقد اوردت جريدة «الحياة» في عددها الصادر في 4/5 تقريرا صادرا عن هآرتس الاسرائيلية ان 25 مفكرا امريكيا معظمهم من اليهود اعدوا قبل سنة مشروع الحرب الكبرى.

كما تجدر الاشارة الى ان احد كبار العسكريين الامريكيين واحسبه رئيس الاركان رتشارد ماير ظهر على المحطة ذاتها بعد فترة قصيرة من عمليات التفجير وقال ما معناه: ان علينا مواجهة الاخطار المحدقة بنا بكل ما لدينا من قوة مركزا على الآتي: «الى متى ونحن نكرس هذه الترسانة الهائلة من احدث الاسلحة المتطورة». وقد اعقب هذا الحادث الجلل تيار متناهي العنف من مشاعر الكراهية والعداء في الولايات المتحدة تجاه الاقليات العربية والاسلامية وملاحقات واعتقالات لم يحدث مثلها منذ الحرب العالمية الثانية.

* التحول نحو الجبهة العراقية

* قبل ان تبدأ العمليات الجوية والبرية للقضاء على نظام طالبان في افغانستان تقدم السيد بول ولفوتز نائب وزير الدفاع الامريكي، وذلك بعد اربعة ايام فقط من احداث 11 سبتمبر، تقدم للرئيس جورج بوش باقتراح مفاده ان العدو الحقيقي للولايات المتحدة ليس في مغارات افغانستان، بل في احد مخابئ بغداد. وطالبه في حينه بشن حرب على العراق. والمعروف ان السيد ولفوتز هذا يهودي صهيوني متقد الذكاء عالي الكفاءة. والجميع في الادارة الامريكية يعملون له الف حساب اذ انه عاصر جميع الادارات المتعاقبة في البيت الابيض منذ عهد الرئيس ريتشارد نيكسون اي منذ اكثر من ثلاثين سنة.

ولا يقل تأثير السيد ريتشارد بيرل عن ولفوتز وآخرين سواه كدوغلاس فيث ولويس بي ممن يعتبرون من الصقور في الادارة الامريكية، وحقيقة ما يهدفون له جميعا هو خدمة مصلحة الدولة الصهيونية فقط ضاربين بمصالح الولايات المتحدة الحقيقية عرض الحائط. وقد اشار الى ذلك السيد باتريك بيوكانان المرشح للرئاسة بكل صراحة في مناسبات عدة وقد نشرت جريدتا «الرياض» و«الوطن» في عدديهما الصادرين في الاول من صفر ترجمة لمقال السيد بيوكانان حول مدى التأثير الصهيوني في تسيير دفة الامور في الادارة الامريكية والتي تجلت بصورة كبيرة في عهد الرئيس الحالي، ويعتبر بيوكانان اكثر الشخصيات مجاهرة بتأثير المد الصهيوني على سياسات بلاده الخارجية.

الا اننا ايضا لا يمكن ان نغفل عن مدى تأثير قوة التيار المسيحي اليميني في هذا المضمار وعلاقته بقوى الضغط اليهودية ـ الصهيونية لدى اعلى المستويات القيادية في حكومة الولايات المتحدة الامريكية.

وتمتد جذور هذا التيار الى عام 1722، حينما اصدر احد اعضاء البرلمان البريطاني كتابه الذي يبحث في امر عودة اليهود الى وطنهم الاصلي. وقد انتقلت ادبيات عودة اليهود، بعد تزايدها في بريطانيا وفي عهد كرمويل بالذات، مع المهاجرين الى الارض الجديدة، حيث اخذت تبشر بأن عودة المسيح الثانية مرهونة بالعودة اليهودية الى بيت المقدس.

وقد تركت هذه الدعوات اثرها القوي لدى غالبية المنتسبين للكنائس المعمدانية والانجليكانية البرستنتانية والتي كان من رعاياها عدد كبير من رؤساء الادارات الامريكية على امتداد تاريخ الولايات المتحدة ومنهم ويلسون وكارتر وريجان والرئيس الحالي جورج بوش.

وبما ان العراق بوزنه الاستراتيجي وثرواته الطبيعية والبشرية وعلمائه وشجاعة رجاله يمثل خطرا كبيرا على المدى البعيد على مستقبل الدولة الصهيونية وخططها التوسعية الهادفة الى الهيمنة على مقدرات العالم العربي بثرواته الطبيعية ومركزه الاستراتيجي بين القارات الثلاث، فإن أمن اسرائيل وحمايتها من اي تهديدات مستقبلية لها هو محط اهتمام الساسة الامريكيين منذ انشائها، وبالتالي فإن شن الحرب على العراق ليس بسبب الرئيس صدام حسين ونظامه وما يقال عن اسلحة الدمار الشامل لديه او لثروته البترولية او بهدف فرض النظام الديموقراطي الحر في العراق ليكون نموذجا حيا يحتذى به من قبل الدول الاخرى بالمنطقة. فاذا اخذنا هذا الهدف الاخير كحقيقة لا جدال فيها فبماذا يمكننا تفسير ما تقوم به دولة اسرائيل، بنظامها الديموقراطي، بأبناء الضفة الغربية من سلب لأرضهم وقتل ابنائهم وتدمير مزارعهم وممتلكاتهم امام انظار قادة الولايات المتحدة الحاليين؟ وقد ابرز السيد فهمي هويدي بمقاله في عدد الاول من اكتوبر الماضي من جريدة «الاهرام» حقيقة الامر بشهادات اكبر المعلقين الاعلاميين الاسرائيليين عن طبيعة الدور الذي لعبته اسرائيل ومن ورائها الصهيونية الدولية في دفع الولايات المتحدة نحو جولة الصراع هذه مع العراق. واورد فيه اجتماع نائب الرئيس ديك تشيني مع 70 خبيرا اسرائيليا في مختلف حقول الاختصاص، ومنهم البروفيسور عماتسيا برعام العراقي الاصل الذي اجتمع به نائب الرئيس الامريكي لمدة 3 ساعات كاملة.

كما اوردت مجلة «المجلة» في عددها الصادر في 3/30 ان اول من اثار قضية علاقة ابن لادن والقاعدة بالعراق هو ريتشارد بيرل رئيس هيئة مستشاري وزارة الدفاع الامريكي ـ الذي قدم استقالته مؤخرا ـ وهو صهيوني قديم في الادارات الامريكية المتلاحقة وكان ما قدمه عبارة عن آراء استخباراتية ذات صلة وذلك بعد احداث 11 سبتمبر بأسابيع قليلة.

* كلمة يجب أن تقال

* اذا نظرنا الى اهم احداث القرن العشرين الماضية نجد ان القوى اليهودية الصهيونية هي اول الكاسبين من جرائها. فالحرب العالمية الاولى (وكان لهم دور فاعل في اشعالها) نجم عنها صدور وعد بلفور وكان سبب صدوره تأييد المنظمات اليهودية لبريطانيا ونجاحها في ادخال الولايات المتحدة الحرب الى جانب بريطانيا وفرنسا. وقد زادت بعدها اعداد المهاجرين اليهود وفق مخطط الاستيلاء على ارض فلسطين العربية، خاصة ان اول مندوب سام لبريطانيا في فلسطين كان اليهودي هربرت صامويل.

ثم قامت الحرب العالمية الثانية وزادت معها حركة الهجرة اليهودية الى فلسطين تبعا لاضطهادهم من قبل المانيا النازية واعقب ذلك اعلان انشاء دولة اسرائيل في عام 1948.

وفي حرب حزيران 1967 استطاعت اسرائيل الاستيلاء على الضفة والجولان وسيناء التي استعادتها مصر في عهد السادات بعد حرب رمضان بثمن الا وهو معاهدة السلام بين البلدين.

ان الكفة الراجحة في الحرب الحالية هي ولا شك في صالح الولايات المتحدة وبريطانيا بحكم الفارق الكبير بين قدرات القوتين المتصارعتين، الا ان صدام حسين وبالرغم من تاريخ نظامه المليء بالنكبات التي حلّت بالشعب العراقي الأبي والشجاع سيعتبر في نظر عشرات الملايين من ابناء الوطن العربي البطل الذي استطاع ان يصارع الولايات المتحدة ويتحدى قوتها وجبروتها في حربين متتاليتين خلال 12 عاما، ولقد نقل عنه قوله: انني لا اهتم بأن اكون محبوبا او مقدرا ولكن يهمني ان يتذكرني الناس بعد 500 سنة من الآن.

وكما سبقت الاشارة فانه بخلاف قضية فلسطين العربية لا توجد اسباب اخرى دفينة لمشاعر العداء هذه التي تفصل بين ابناء الشعب العربي والامريكي الى ان حدثت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من تفاعلات وتداعيات اهم ثمراتها بالنسبة للبلاد العربية الحرب على ارض العراق.

وقد لا يكون خافيا على من خططوا لهذه الحملة العسكرية الشرسة ان ابناء العراق الاشاوس لن يكونوا غنيمة سهلة لمن يعتدي على ارضهم مهما كانت مشاعر معظمهم عن نظامهم او المبررات المقدمة لتبرير ذلك الهجوم.

ولضمان تنفيذ مخطط الهجوم صور الامر لكبار القادة في الولايات المتحدة ان نجاحه مؤكد وبخسائر طفيفة لأن المواطنين العراقيين سيقابلون الغزاة بالورود والازاهير.

اذن فالهدف الحقيقي لما حدث هو تحجيم العراق الدولة العربية الاقوى والاغنى، بل وتعريضها لسلسلة رهيبة من القلاقل العرقية والطائفية والاقليمية التي لا حصر لها مما سيعيق عمليات النمو والتطور المطلوبة لعشرات السنين القادمة. كما يتوقع ان تمتد تداعيات الحرب بطريقة او بأخرى الى دول الجوار وبالتالي اتاحة المجال لاعادة هيكلة دول المنطقة وفق سايكس بيكو جديدة وهو ما تأمله اسرائيل والقوى الخفية التي تقف معها في تحريكها لهذه الاحداث المصيرية وسواها في المنطقة. الم يقل دايان القائد الاسرائيلي الشهير عندما نشبت نيران الحرب بين ايران والعراق ما مفاده: نشكر الرب على هذه الحرب التي اراحتنا من 40 فرقة عراقية كان من الممكن ان تتواجد عند حدودنا. وألم يقل بن جوريون عندما سئل بعد اعلان انشاء الدولة الصهيونية كيف بامكانكم العيش وسط هذا البحر المتلاطم من الاعداء فكانت اجابته: ان هذا البحر الذي تقول عليه سيواجه من القلاقل والعداوات ما سيشغله عن دولة اسرائيل لعقود بعيدة.

اذن والحالة هذه هل يا ترى يمتد بنا العمر لنرى ان الولايات المتحدة وعت حقيقة دولة اسرائيل وخطرها على امن وسلامة المنطقة العربية بأسرها وان مصالحها الحقيقية هي في بناء افضل العلاقات وترك احسن الانطباعات لدى ابنائها لما هناك من مصالح مشتركة لا حد لها تجمع بينهما.

ولعل ما نشرته مجلة «المجلة» في عددها الصادر في 23 ـ 29 من شهر مارس مؤشر هام عن بداية الصحوة المطلوبة في الاوساط الامريكية بالنسبة لدور الصهيونية ـ الامريكية في زج الولايات المتحدة نحو حرب العراق وقضايا الشرق الاوسط الاخرى.