أزمة الخليج الثالثة.. من معركة الدمار إلى حرب الإعمار

TT

انتهت معركة الدمار بين الولايات المتحدة والعراق، وبدأت حرب الإعمار بين الولايات المتحدة وجميع دول العالم على العراق. لم يكن لدينا أدنى شك في أن القوة العسكرية الأمريكية سيكون لها الغلبة في معركتها غير المتكافئة مع القوة العسكرية المهلهلة في العراق. كان من المتوقع أن نشاهد ونسمع عن مفاجآت، وهو أمر طبيعي في كل معركة، ولكن النظام العراقي كان يحتاج إلى معجزات لكي تحقق قواته العسكرية والنشامى والماجدات المستوى الأدنى من المقاومة. من الناحية التكتيكية، لا بد وأن يظهر بعض جيوب المقاومة في أنحاء متفرقة وذلك بسبب الخطة العسكرية الأمريكية التي تعتمد على القضاء على مراكز القيادة والسيطرة، ونتيجة لذلك قطع الاتصالات بين قطاعات القوات التي قد لا يعلم بعضها ما يجري لدى البعض الآخر. ولذا، تأخر سقوط العاصمة بعض الشيء ومن دون أي ظهور لما سمي الحرس الجمهوري وتوابعه. من ناحية أخرى، نجحت الدعاية العراقية في تضخيم قوة ودور الحرس الجمهوري والحرس الجمهوري الخاص وفدائيي صدام، لكن الحقيقة المرة كانت عكس ذلك تماما. المزعج والمؤلم، في نفس الوقت وبالقدر نفسه، أن العدد الاقل من المحللين العسكريين الذين انتشروا في الفضائيات العربية أدركوا حقيقة الخدعة المتعلقة بتضخيم القوة العسكرية العراقية. ماذا كانت النتيجة؟ مزيدا من التضليل ومزيدا من الاستخفاف بعقلية المستمع والمشاهد والقارئ العربي، مما يدل على أن الأذن العربية والعقل العربي أدمن جرعات إعلام الهزيمة الذي استقر منذ العام 67. الأسوأ من ذلك، أنه بمجرد سقوط تمثال صدام في وسط العاصمة تبدلت لهجات تلك الفضائيات.

يبقى أمامنا حرب الإعمار والتي يبدو أنها ستطول إلى أمد بعيد جدا، ويتبادر إلى الذهن سؤالان: من سيبدأ إعمار العراق؟ ومن سيتحمل التكاليف؟ إذ يتردد في الأوساط الفكرية عدد من التأملات.

أولا: إذا كانت دعاوى الولايات المتحدة في حربها مع العراق هي:(1) إزالة أسلحة الدمار الشامل. (2) اسقاط الرئيس العراقي. (3) وإزالة النظام العراقي، فإن هذا يعني أنه بمجرد زوالها تصبح مهمة الولايات المتحدة قد انتهت، ويمكن حينها أن نقول إن الأمر برمته يمكن أن يعود للأمم المتحدة.

ثانيا: إذا كانت الولايات المتحدة ستعيد إعمار العراق من الخزينة الأمريكية، فإن هذا يبرر للولايات المتحدة بقاءها في العراق. أما إذا كانت الولايات المتحدة ستعيد إعمار العراق من أموال العراق، فالأمر يختلف كليا ويضعنا أمام عدد من التكتيكات الاستراتيجية لخدمة السياسة الخارجية الأمريكية في أهدافها المرحلية في منطقة الشرق الأوسط. أما نحن فنجادل بأن الولايات المتحدة التي خاطرت بسمعتها وشعبيتها وكثير من أصدقائها، مضافا إلى ذلك دماء أبنائها، لن تسمح لأحد كائن من كان أن يأكل من كعكة العراق ما لم يقدم شيئا غاليا وثمينا مقابل ذلك. ما قيل في بلفاست من قبل الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني حول دور فاعل للأمم المتحدة في إعادة إعمار العراق، ليس إلا «ذرا للرماد في العيون». كيف يمكن لهذا المنظمة الدولية أن تصبح أكثر فاعلية والولايات المتحدة قصفتها قبل أن تقصف العراق، وساعدت على تهميشها وخنق دورها ونفيها حتى من ذاتها؟ تماما، مثل ما فعل العراق في أزمة الخليج الثانية عندما احتل الجامعة العربية قبل أن يحتل الكويت، وتجاهل المنظمة الدولية العربية، وساعد على هدم ما يسمى بالنظام العربي، وبعد ذلك عاد ليبحث عن دور فاعل للجامعة والنظام العربي للوقوف معه في أزمة الخليج الثالثة.

المهم الآن ليس العراق الذي سيصبح ملفا أمريكيا بحتا، بل الملفات العالقة في المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. النزاع العربي ـ الإسرائيلي سيتخذ شكلا مختلفا ومغايرا بعد سقوط النظام العراقي، مما يقودنا إلى الحديث عن ما يسمى بالنظام العربي في ظل تطورات أزمة الخليج الثالثة. ولذا يفترض أن يتوجه الفكر والعقل العربي، أو بقيته، إلى التعامل مع الأحداث بمفهوم المستقبل الآتي وليس المستقبل الماضي ـ على حد تعبير أستاذنا محمد عابد الجابري. وهو النظر إلى المستقبل من دون إثقال لفكرنا بكثير من موروث الماضي في التعامل مع الأحداث الدولية. إضافة إلى أن خارطة الطريق التي وعد بها الفلسطينيون سوف تمر عبر تضاريس وعرة قد تنتهي بأسوأ مما انتهت إليه أوسلو. المحصلة، أن على العرب أن ينفضوا أيديهم من الجامعة العربية إذا أرادوا أن ينقذوا المستقبل من الكوارث. تلك المنظمة العجوز التي وصلت إلى أرذل العمر لأسباب لا تغيب عن فطنة الكثير. فلا نظن، أنه يمكن للجامعة العربية أن تلتئم في ظل الوضع الحالي والشقاق الذي ساعد على كثير منه معالي «المدير العام» الحالي لهذه المنظمة التي يتفق الجميع على انتهاء دورها الإيجابي. وأخيرا، قد نتفهم أن تتباكى بعض الدول الشرق أوسطية على الشعب العراقي خوفا من الدور الأمريكي القادم أو ربما تعاطفا مع الشعب العراقي، ولكن أن تظهر دول أخرى شرق أوسطية تباكيا وتعاطفا مع الشعب العراقي، من ناحية، بينما تصر على المطالبة بالتعويض بمليارات الدولارات عن خسائرها بسبب الحرب، من ناحية أخرى، وهي تعلم تماما أن تلك الأموال التي تطالب بها ستؤخذ من قوت الشعب العراقي، فهذا أمر يدعو إلى السخرية ويثير الشفقة.

*باحث سعودي

[email protected]