الاقتداء

TT

كان اولهم، في العصور الحديثة، المسيو روبسبيير: جعل للقتل والذبح دستورا وفلسفة وخطباء وشعراء وقضاة ومعهم اشهر مدع عام في تاريخ الجريمة الرسمية. وكان يقول له، اريد اليوم مائة جثة فتحضر الى المقاصل على عربات تجرها الحمير المتعبة. وكان المسيو روبسبيير، مريض النفس، عانسا ومعقدا، تتولى شؤونه شقيقته، العانس هي ايضا. وليس معروفا عدد ضحاياه. فقد قتله رفاقه قبل ان تتقن الثورات فن التسجيل، او قبل ان تهتم بتطويره مثل سواه.

فلاديمير ايليتش لينين رفع كثيرا من اتقان القتل القانوني والتشريد والذبح والسجون السيبيرية الباردة والتعذيب والاشغال الشاقة ولكن قتلاه لم يتجاوزوا الثلاثة ملايين. فقد توفي قبل نهاية موسم الحصاد. وكان بالتأكيد الاكثر ثقافة. وكان يحب الموسيقى فتوقف عن سماعها لكي لا «تخفف من عنفه». وكان يحب لعب الشطرنج فتوقف عن هوايته لكي لا تصرفه عما هو اهم: الانتقام لشقيقه الذي اعدمه القيصر! لذلك اعدم هو، باسم الثورة والانقاذ والتقدم ثلاثة ملايين بشري. وترك الباقي لخلفه، الراهب كوبا، او الجورجي يوسف ستالين، وكان هذا عديم الثقافة، خاليا من روح الدعابة، لا يحب النكات الا اذا كانت عن الاعدامات. وكان له منها نحو ثلاثين مليونا. لكن كما استند روبسيير ولينين الى المفكرين لتشريع دولة الرعب، استند هو الى روبسبيير في اعدام الرفاق والى المدعي العام في تكديس الجثث والى كارل ماركس في ادعاء الانقاذ وتحسين الحال البشرية. وكانت هوايته المفضلة ان يوقع احكام الاعدام على ورق صغير. وحاول مولوتوف ان يسابقه على الرقم القياسي في ذلك. الارجح ان المحاولة اخفقت.

صاحب «الكتاب الاحمر»، «التشرمان» ماو، اسس دولة رعب خاصة به. لم يكن مثقفا مثل لينين، لكنه ادعاه وادعى نسبه الفكري. وحاول ان يسبغ على الماركسية لونا صينيا، كرها في الروس، فكتب قصائد «الكتاب الاحمر» بخط يده. وبذلك كان فنانا رديئا مثل هتلر. لكنه تخطى الجميع في الرقم القياسي ومجمل الحصاد: 60 مليون قتيل على مر السنين، وثورة «ثقافية» مضحكة وغير مسلية وثقيلة الدم، ابرز ما حققته احراق اللوحات القيمة والكتب الجميلة وطمس الفنون التراثية الرائعة من اجل ألا يبقى احد سوى «الكتاب الاحمر» والتشرمان ماو، وحارساته و«مترجمته» التي قال عنها لهنري كيسنجر «اذا وافقت على احد فاني لا استطيع ان ارفضه». يا لذوقك الرفيع ايها التشرمان ماو.

تقضي دولة الرعب ان يكون «التشرمان» مؤلفا للكتب وان يكون رؤوفا وحنونا. يروي سعد البزاز، الذي اخذه عالم النشر الصعب من عالم الكتابة الممتع، ان الرئيس العراقي الضائع حاليا، كان يتصل به شخصيا عندما كان في الادارة، ليطلب اليه شيئا ما. وكان يناديه (كما ينادي الجميع): ولدي! ولم يوقع الرئيس الكتابين اللذين وضعهما باسم «لكاتبه» لكنه بارك آلاف الكتب التي وضعت عنه وآلاف التماثيل والنصب التي اقيمت له. ولم تكن له جاذبية جماهيرية مثل هتلر بل كان يحيي الناس من خلف المنصة على طريقة ستالين. وكان يرفع ذراعه اليمنى لفترة طويلة، علامة القوة وآية الرجال الذين لا يتعبون. وعندما شاعت انباء عن مرضه فعل ما فعله ماو، اذ ذهب الى نهر دجلة يستحم ومن حوله طبعا الحرس يفتدونه حتى في المياه. يبلغ عدد حراس كاسترو 20 ألفا، بينهم فرقة خاصة من حرس السباحة وخبراء المياه. الباقي لليابسة والارض. ومن عليها.

جاء صدام حسين باسم «البعث» وحكم باسم نفسه وحدها. واما شعار «وحدة حرية اشتراكية»، فقد جعل من الأول اكبر خلاف وصراع مع سوريا، وجعل من الثاني اكبر مصنع لتماثيل الفرد في العالم، واما الاشتراكية فتحولت الى اكبر شراكة مع العالم الرأسمالي، بما فيها، او خصوصا جنوب افريقيا ايام حكم الابارتيد ويوم كان نلسون مانديلا في زنزانة الرجل الابيض. آخر زنزانة يفرضها الرجل الابيض.

الآن، وقد انتهى، سوف تكثر الكتابات عن صدام حسين. وسوف يكون اخبرها واعلمها بأقلام الذين مجدوه وساهموا في صنع تماثيله. وسوف تكون تلك ايضا اعنفها واكثرها حدة. وعندما خسر صدام حسين معركته الاولى في الكويت، كان اول من تخلى عنه اولئك الذين خاضوا حروبه ومعاركه. اما هذه فكانت معركته الاخيرة. هذه كانت حقا «ام المعارك». وكما قال لي ضابط كويتي سابق، بكل كبر وكل صدق، «لا نتمنى شيئا سوى ان يمنح الله اخوتنا في العراق القدرة الكبرى على العفو».