عراق الحضارة.. لم يسقط

TT

الحكام يمضون، والأنظمة تتغير، والكراسي تتبدل، كل يأخذ دورته في الحياة، والطغاة نهاياتهم معروفة مهما طال أمد حكمهم، وهذا ما رآه العالم بأسره وهو يشاهد تمثال الرئيس صدام حسين يهوي على الأرض وسط تهليل الشعب العراقي، الذي ذاق الأمرين على مدى ثلاثين عاما على يد هذا الحاكم الجائر. مسكينة الشعوب العربية بُليت معظمها بأنظمة فاشية الهوى من دون ان تملك حتى حقها الطبيعي في تخليص نفسها من نير الاستعباد. لكن هل ما شاهدناه على شاشات التلفاز يعني بالفعل نهاية الاستبداد والطغيان، أم انه مؤشر خفي لبداية التقهقر والعودة الى عهود الاستعمار التي عاشت فيها البلدان العربية قرونا من الزمن، نهب فيها المستعمر خيراتها وثرواتها؟! لقد أعلنت الادارة الامريكية عن بدء التحضير لسفر «جاي جارنر» لمباشرة عمله في العراق كحاكم عسكري، الذي تربطه علاقات وثيقة بالجماعات الاسرائيلية المحافظة، والذي اشاد في السابق بدور الجيش الاسرائيلي في مواجهة الانتفاضة، مما حرك هواجسي، واعذروني ففي داخلي عقدة من لقب «الحاكم المنتدب»! واسترجعت سطور التاريخ التي اصبحنا نسردها في صوت خافت حتى لا يسمعنا أحد، والتي تبين لنا كيف سرقت ارض فلسطين من العرب على مرأى ومسمع العالم بأسره، متسائلة: هل التاريخ يعيد نفسه؟! هل سيستوعب العرب العبر من الاحداث التي وقعت لهم في الماضي، أم ان العرب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يستوعبون؟! وهل عدنا الى ذلك العصر البعيد، يوم كانت البلدان العربية يتم تقسيمها بحجة اعادة تربية أجيالها من جديد حتى تبلغ سن الرشد؟! أليس ما يجري اليوم في العراق بالرغم من اتفاقنا جميعا على دكتاتورية النظام العراقي، يظهر أن هناك شهية مفتوحة لدى الامريكان لاسقاط انظمة أخرى ترى انها تضر بمصالحها في منطقة الشرق الاوسط؟! آه.. يا خوفي على غدنا من أمسنا ويومنا!

لقد أحسست بالأسى الممزوج بالغضب وأنا أرى القنوات التلفزيونية تتبارى على تصوير حالات النهب والسلب للمباني الحكومية من قبل بعض الفئات في الشارع العراقي! صحيح ان النظام ساهم في تجويع الشعب باقحامه في حربين، لكن ألم تساهم امريكا كذلك من خلال الحصار المفروض على العراق لأكثر من اثني عشر عاما في تجويع، بل في اصابة الاجيال الجديدة بالأمراض المستعصية والتشوهات الخلقية نتيجة لاستخدامها قنابل اليورانيوم المشع في حرب الخليج الثانية؟! نعم من حق الشعب العراقي ان يفرح لخلاصه من هذا الحاكم المستبد، وما نراه على شاشات التلفاز ما هو إلا تعبير عن فرحة الخلاص، لكن ما ان يفيق العراقيون من نشوة الصدمة حتى تبدأ تصفية الحسابات! لن ينسى العراقيون دماء ضحاياهم الابرياء الذين قتلوا في حرب المطامع! ولن يغفروا للأنجلو ـ امريكيين ما اقترفته ايديهم في حق اطفالهم ونسائهم وشيوخهم! ومن قراءتنا جميعا لتاريخ العراق نعلم بأن أرض العراق مشربة بالدماء، وان الكثير من شبابها دفعوا حياتهم ثمنا لمواقفهم الوطنية. إن الشعب الذي تظهره كاميرات المصورين على انه شعب همجي جائع، هو نفسه الشعب العربي الوحيد الذي نجح في انشاء مفاعل نووي أقلق اسرائيل ودفعها الى تدميره ما بين ليلة وضحاها! هذا الشعب هو نفسه الذي خرج أفضل العلماء من مختلف التخصصات! والغريب انه ولا دولة عربية فكرت في ان تبحث عن هؤلاء العلماء وتستقطبهم الى بلدانها لتستفيد من عقولهم الفذة، بدلا من ان تجعلهم لقمة سائغة وعرضة للمساءلة من قبل الادارة الامريكية!

إن ما يجري اليوم داخل العراق ما هو إلا وقفة لالتقاط الأنفاس! يقابلها على الجانب الآخر رد الفعل الكويتي لما يجري في أرض العراق، حيث استشرت حمى من نوع سريع العدوى بين الافراد داخل الكويت وصلت للأسف الى بعض الكتاب الكويتيين من الجنسين، بإشهار سلاح المبارزة في وجه كل من يرفض تأييد الحرب على العراق، أو يعبر عن احتجاجه لما وقع هناك، بل أدى الامر الى معايرتها لبعض الدول بما قدمته لها من مساعدات مادية، وتهديد قناة «العربية» بالطرد بسبب أسلوب تغطيتها للحرب، من خلال رفع شعار من ليس معنا فهو ضدنا!

ما زلت أؤمن اليوم وغدا والى نهاية العمر، بأن الحرية لا تفرض بل تؤخذ، والديمقراطية لا توهب بل تبنى، فعصر الهبات من دون أثمان باهظة قد ولى، والإنسان بطبعه مفطور على كره الاستعباد، والحرية والعدل والمساواة هي حق من حقوق البشرية في كل زمان ومكان، والذين يتفاءلون بهبوب رياح الحرية والديمقراطية على العالم العربي مخطئون، انها حرية زائفة، حرية مرسومة على ورق نشاف سرعان ما تجف حروفه، والحرية التي يتم صنعها بأنابيب صناعية ستموت حتما داخل المعامل، لأن الحرية الحقيقية لا تولد الا من رحم الشعوب، ولا تفطم الا من ضروع افرادها، حتى تشب عن الطوق وفي دمائها تسري الكرامة والعزة والعروبة، اما التي يريد الامريكان فرضها في العراق اليوم فهي حريات معلبة، منتهية الصلاحية، ستؤدي الى حدوث تسمم جماعي بطيء سيسري في شرايين الشعب العربي كله محدثا الوفاة على الأمد البعيد.

شيء إيجابي واحد اسفرت عنه هذه الحرب! لقد كشفت الكثير من الحقائق على الارض، ليس داخل العراق فقط، وإنما في العالم العربي بأسره! لقد بينت هشاشة النظام العراقي، الذي سرعان ما انهار أمام جحافل الدبابات، لأنه نظام قمعي قام على الاستبداد والطغيان، وبعث برسالة تحذير ضمنية للكثير من الانظمة العربية التي تحكم شعوبها بالحديد والنار، بأنه قد آن الأوان لأن تصلح من نفسها، وترتب بيتها المبعثر من الداخل، وان تزيح الحبال عن رقاب شعوبها، وتمنحها الثقة، فهي التي ستذود عنها وتحميها من اي عدوان خارجي! ولو كان في العراق حكم ديمقراطي حقيقي لما انهارت الحكومة وسقط النظام في أقل من شهر! لكن للأسف في معظم بلداننا العربية هناك مقولة مفروضة.. «الدولة أنا.. وأنا الدولة»! ولهذا أتمنى ان تكون هذه التجربة الأليمة بداية الإصلاح لتحقيق اصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية.

لقد لفتت انتباهي كلمة الأمير طلال بن عبد العزيز، حين سأله مذيع «الجزيرة» عن موقف الدول العربية مما هو قادم، أجاب.. «موقف العاجز.. ليس هناك رجال في عالمنا العربي»! فهل بالفعل ماتت النخوة العربية، أم أنها في صدد عقد جلسة منفردة لمحاسبة ذاتها؟!