من أجل تفكير وإعلام جديدين..

TT

وقعت الواقعة، وزُلزل الناس زلزالا شديدا، وغشيهم من عنفها وكربها ودخانها ما غشيهم. وعلى الرغم من هول الواقعة وضغطها العمودي الثقيل العنيف، فإن الشمس لن تكف عن الطلوع بعدها، وان الامة ستظل حية، ماضية في مسيرتها المتعثرة بسبب تقصيرها الذاتي المخزي، أو ستظل ماضية في مسيرتها الصاعدة بسبب علمها ومباشرتها لسنن التقدم الكونية.

ولو أن هذه الأمتي (تفنى) كلما احاطت بها ازمة مزلزلة، لما بقيت على ظهر الارض الى اليوم. فمن الأزمات أو الزلازل الكبرى التي ضربتها: غزو التتار، والحروب التي انتحلت اسم الصليب (!!).. وسقوط الأندلس، والاجتياح الاستعماري الشامل الذي سطا على معظم بلاد العرب والمسلمين، واحتلال فلسطين. وقد كان لهذه الزلازل (توابع) امتدت في الزمان والمكان: امتدادا قصيرا او متوسطا او طويلا.. ومع ذلك كله عاشت هذه الامة ولم تمت، على كثرة الشامتين فيها، والمتعجلين بنعيها.

وما وقع في العراق زلزال عنيف بلا ريب، يماثل الزلازل الغابرة او يفوقها نوعيا. بيد انه لن يستطيع (اجتثاث) الامة العربية الاسلامية، ويلغي وجودها المعنوي والمادي.

ما معنى السياق الآنف؟ هل معناه التسليم بـ(الاحتلال) ـ جاك سترو اقر بأنه احتلال من الناحية القانونية، ولكنه احتلال من اجل التحرير!! ـ .. هل معناه تجرع السم بلذة ومتعة وفرحة غامرة؟ لا .. فما ليس مشروعا، لن يكون مشروعا مهما كانت الذرائع، وحتى لو أُخرج بأساليب لامعة رقّاصة، وأُحيط بحاملات الطائرات ونشط (البيرليّون العرب) ـ نسبة الى ريتشارد بيرل ـ في تسويغه وتسويقه.

ان التعامل مع (الواقع) ليس معناه: الاقرار (البعدي) بحرب لا يقرها دين، ولا قانون دولي. فاستباحة العراق هزيمة، ودون تقليل من فداحتها، فإن ما هو اسوأ منها، وأشد ضررا على العرب والمسلمين والتقدم البشري الرشيد بوجه عام هو (تحطيم المعايير) في ظل (حالة تبشيرية) يبشر بها مبشرون كذبة تحت شعاري: (ما بعد احداث 11 سبتمبر) و(ما بعد الحرب على العراق). وكأن هذين (البَعْدين) يلغيان كل ما تواطأ عليه عقلاء البشر من مبادئ وقيم وأعراف وقوانين، وكأنه يحق لدولة مترعة بالقوة ان تنسخ ما توصل اليه التقدم الانساني في تاريخه المكتوب وغير المكتوب ابتغاء ان تبدأ البشرية من (الصفر).

ليس هذا هو المقصود من التعامل مع الواقع. وانما المقصود استعمال (العقلانية) في اختيار انجع الوضعيات للتعامل مع الواقع المأزوم.

والوضعيات هي:

أ ـ وضعية (البكاء والنواح على الاطلال) وهذا سلوك يجعل حياة الامة مأتما دائما مفتوحا.

ب ـ وضعية (السكون المميت).. وبالسكون تأسن الحياة وتتفسخ، اذ السكون ضد قوانين الحركة المدفوعة بسنن الحياة والكون.

ج ـ وضعية (الحركة المبصرة). وهذا هو الخيار الاضطراري «!!» لمن يريد ان يحيا عزيزا قويا محترما.

د ـ وما يلي الاحداث الجسام، ويقفو الازمات الضصخمة ـ بدارا أو على مكث ـ ما يعد نزوعا غريزيا واراديا الى التجافي عن وبالها، والى البحث عن طريق قد يكون صحيحا مفضيا الى النجاة، وقد يكون ضالا معوجا مؤديا الى التهلكة، مضيفا الى شقاء اليوم: شقوة جديدة في الغد. فإن اسوأ ما في الازمات: اطراد مضاعفاتها وضغطها وآثارها في المستقبل، دون احتجاز عبقري لتداعياتها، وكف صارم لتناسلها، وخروج غلاب من دوامتها.

وقد خلت من قبلنا المثلات.

كانت الحرب العالمية الاولى: ازمة كبرى. وفي اثرها، تهيأ العالم، او اضحى اكثر تهيؤا لفكر جديد، وللمشي في طريق ارشد.

فماذا حدث في لحظة التهيؤ والتفتح؟

لقد تقدمت الماركسية، والنازية، والفاشية لتسد الفراغ، ولتلبي المطالب الزمنية، والحاجات الموضوعية التي تتطلع اليها البشرية، او اوربا على الاقل، بعد صاعقة الحرب العالمية الاولى.

ولكن تلبية المطلب الصحيح، كانت خاطئة.

ان هذه المذاهب التي نشأت، او تفجر عنفوانها بمناسبة الحرب، والتي استغلت الازمة الدامية لتجعل نفسها بديلا فكريا وسياسيا واجتماعيا للقحط العالمي العام في هذه المجالات، ومخرجا من مضايق الانقاض وغبارها الخانق الى فسحة الامن والسلام والعدل والعمران.

هذه المذاهب لم تلبث الا قليلا حتى اصبحت هي ذاتها سببا في حرب اوسع نطاقا، واكثر دموية، وابشع مآلا، وهي الحرب العالمية الثانية (والشهادة بالعدل تقتضي القول: ان الشيوعية لم تكن مسعرا لهذه الحرب، بيد ان هذه البراءة لا تعفيها من مساوئها الاخرى).

وفي خواتيم الخمسينات من القرن الماضي الميلادي، وفي مطالع ستيناته: سجل الاتحاد السوفيتي تفوقا على الولايات المتحدة في مباراة الفضاء.

وهذا حدث ضخم، او ازمة عاتية ـ في العرف الامريكي ـ بالقياس العلمي والتقني والامني الاستراتيجي. فمن يسيطر على الفضاء يستطيع ان يُميل الموازين العسكرية والامنية لصالحه على الارض، ولا سيما اذا كانت الاطراف المتنافسة قد بيتت النية على عسكرة الفضاء.

هنالك، تجاه هذه الازمة المزلزلة، وقف الرئيس الامريكي يومئذ (جون كندي) لينذر قومه بالخطر الجسيم، وليرغب اليهم: ان يغيروا ما بأنفسهم، وان يطوروا برامج التعليم العام، ومناهج البحث العلمي في الجامعات، وفي مراكز الدراسة والبحث وتطوير البحوث: ابتغاء اللحاق بالاتحاد السوفيتي، ثم ابتغاء التفوق عليه.

ولعل النابهين يلحظون ان للمثلين السابقين: علاقة وثقى بـ(الاعلام) من حيث المضمون والأداء:

1 ـ في المثال الاول، كان الاعلام هو: اداة الترويج والتلميع الرئيسة للشيوعية، والنازية، والفاشية، حتى قيل ان (هتلر) نفسه، ليس سوى (صناعة اعلامية) لوزير دعايته (جوبلز).

وليس بدعا من القول ان يقال: ان هذه المذاهب والافكار التي التمعت في الأفق الاعلامي كثيرا وطويلا هي عينها التي باءت بالخسران المبين في الحقول كافة: العسكرية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية.

ولقد جاء النبأ بالهزيمة العسكرية للنازية والفاشية.

ولقد جاء النبأ بالافلاس الفكري والاجتماعي والاقتصادي للشيوعية.

2 ـ في المثال الثاني: توسل جون كندي الى الهاب حوافز امته الى مزيد من الطموح العلمي.. توسل الى ذلك بوسائل الاعلام، اذ انهمك الامريكيون في حملة قومية جادة ولاهبة وبعيدة المدى شعارها: (الى الفضاء قبل الآخرين).

وكانت وسائل الاعلام الكبرى والصغرى تقود هذه الحملة، وتغذيها بشتى دوافع الركض المثابر الى الامام.

ولا شك ان ما وقع في العراق، من الاحداث والازمات التاريخية الكبيرة بمعيار: الكم والنوع والاختراق والاثر.

وخليق بأزمة كهذه: ان تجعل ما بعدها، مختلفا عما قبلها ما لم تقع مخالفة جاهلة لمقياس حركة الاختبار والتجديد الصحيحة: «ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب». فالحدث الذي تتحدث عنه الآية هو موقعة أحد: فيصل زمني بين المواقف والمسالك والمفاهيم:

أ ـ ما أنتم عليه: حالة، وهي: الراهن.

ب ـ وبعد ما أنتم عليه حالة أخرى وهي: الصيرورة.

ج ـ والاختلاف بين (قبل) و(بعد) او بين المرحلتين السابقة واللاحقة قد يكون في المفاهيم، او الاساليب او الرؤى او العلاقات التي ينبغي ان تنتقل من حال الى حال اخرى. وليس بالضرورة ان يكون التبدل كاملا في كل شيء، وكل شأن. فليس من التفكير السديد: تصور: ان الازمات ناسخة لكل شيء، نافية للصالح والفاسد كليهما.

فلا يفتأ تطور الحياة يبقي على النفائس والصالحات والايجابيات مهما كان حجم ذلك التطور وعمقه وسرعته ومهما كان نطاق الازمات وضغطها وتأثيرها.

أما اولئك الذين شذوا عن (قانون التراكم المعرفي القبْلي وقانون البناء عليه) ـ وهما تراكم وبناء لا يني عقلاء البشر يستصحبونهما في سيرهما، ويدغمونهما في النهضات الانسانية المتتابعة ـ هؤلاء الشاذون عن هذا القانون: حسبهم من الخيبة: انهم اذا دمروا ما كان موجودا بدون تعليل عقلي مقبول، لم يفلحوا في انجاز اضافة جديدة، وقد تكاثرت دواعيها.

ولا تناقض بين المبادئ الثابتة ـ أيا كان معيار الثبات ـ وبين العزم المستمر على التجديد المستمر او الدوري. فالامريكيون ـ مثلا ـ قد رفضوا التوقيع على اكثر من اربعين معاهدة دولية.. لماذا؟! لانهم رأوا في هذه المعاهدات: الغاء او تذويبا لـ(خصوصيتهم) الثقافية، او الامنية، او الاقتصادية.. وهذه المحافظة الصلبة على الخصوصيات لم تمنعهم من الانغماس في تجديد ما يجب تجديده.