إدارة أميركية مختلفة بعد سقوط بغداد

TT

مما لا شك فيه ان الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر غيرها قبله، وان الادارة الاميركية بعد سقوط العراق غيرها قبله. بعد 11 سبتمبر انتقلت الولايات المتحدة من منطق التعامل السياسي مع العالم الى منطق التعامل العسكري. وبعد سقوط العراق استقوى الصقور على الحمائم داخل الادارة الاميركية وباتت النزعة الامبراطورية مهيمنة على الخطاب الاميركي، وكأن واشنطن ما عادت تخشى الانتقال من حرب الى حرب، وما كادت تنهي حربها على العراق حتى نحت صوب حربها على سوريا تدعوها الى «التعاون» معها على حد تعبير الرئيس الاميركي تحت طائلة مواجهة العواقب الوخيمة، وكأنما نحن عشية فصل جديد من الفتوحات او الغزوات الاميركية.

وأيا تكن الحجج والذرائع التي تسوقها الولايات المتحدة ضد سوريا، فهي لا تخفي اندفاعها الى السيطرة، فقد تفتحت الشهية الاميركية على الامساك بالعواصم العربية الواحدة تلو الاخرى بعد أن بسطت سيطرتها من مضيق هرمز الى خليج العقبة. وتذكر واشنطن دمشق بأن الجيش الاميركي بات على حدودها، وان قواعد اللعبة قد تغيرت في الشرق الاوسط او على وشك ان تتغير جذرياً، وانها صارت قادرة على رعاية مصالحها في المنطقة بصورة مباشرة، وقد تكون هذه الرسالة هي الاهم: الولايات المتحدة باتت ترعى مصالح الولايات المتحدة دونما أي حاجة الى أي قوة اخرى بما فيها إسرائيل.

أما إسرائيل فتحاول ان تجر الولايات المتحدة للتورط أكثر وأكثر في رمال الشرق الاوسط المتحركة وتموجاته وتعقيداته التي لا تحصى ولا تعد بقصد جعل واشنطن تحتاج الى معلوماتها وخبراتها على الاقل، وتسعى للدخول على الخط الاميركي ـ السوري الساخن، وحمل واشنطن على ادراج المطالب الاسرائيلية على لائحة المطالب الاميركية حيال دمشق.

من جهتها تتقن سوريا اللعبة واصول محاكاة واشنطن. وقد اتسمت العلاقات الاميركية ـ السورية بالحذر الدائم، سواء في حالات القطيعة كما حدث في عهد رونالد ريغان، ام في حالات التعاون كما حدث في عهد جورج بوش الأب. كما تتقن سوريا فن التفريق بين المصالح الاميركية التي تكون في بعض الاحيان محقة كما جرى في شأن التعاون السوري ـ الاميركي في مضمار مكافحة الارهاب، وبين المطامع الاسرائيلية التي لا تتقبلها في المطلق وتواجهها بصلابة حفاظاً على الثوابت الوطنية والقومية التي يشعر بشار الاسد انه مؤتمن عليها. ان الرئيس السوري يميز بوضوح بين المطالب الاميركية والمطالب الاسرائيلية: الاولى قابلة للنقاش، أما الثانية فلا يمكن النظر إليها الا في اطار التسوية الشاملة لأزمة الشرق الاوسط وقضيتها المركزية فلسطين.

ولا تخلط سوريا بين المطالب الاميركية والمطالب الاسرائيلية، ولا تتعامل معها وكأنها حزمة واحدة. فما بين دمشق وواشنطن شيء، وما بين دمشق وتل أبيب شيء آخر. في المقابل، فإن إسرائيل تتعمد الخلط بين مطالبها والمطالب الاميركية، وتعتمد في هذا الامر على اللوبي اليهودي وعلى المجموعات اليهودية العاملة داخل الادارة الاميركية والصقور من المسؤولين الاميركيين.

والواقع ان ما تريده الولايات المتحدة من سوريا لصالح الولايات المتحدة هو الامتناع عن التدخل في عراق ما بعد صدام حسين، وما تريده الولايات المتحدة من سوريا لصالح إسرائيل هو الامتناع عن عرقلة مشروع «خريطة الطريق». في الحالة الاولى تخشى واشنطن من «لبننة» العراق، وفي الحالة الثانية تخشى تل أبيب من ان تستمر سوريا في دعم الانتفاضة الفلسطينية في فلسطين وحزب الله في لبنان.

في مطلق الاحوال استبعد ان تستخدم واشنطن الوسائل العسكرية لفرض تسوية للنزاع العربي ـ الاسرائيلي، وهي تتبع دبلوماسية «الرسائل الساخنة» في الوقت الراهن لافهام دمشق بضرورة الابتعاد عن التدخل في شؤون العراق. ولا اتصور ان الادارة الاميركية عازمة على اللجوء الى أكثر من الضغوط الديبلوماسية والاقتصادية على سوريا، بما فيها التلويح باقرار «قانون محاسبة سوريا» في الكونغرس.

بالطبع دمشق مرتاحة الى وضعها الدولي، ولا سيما بالنسبة الى فرنسا والمانيا وروسيا وحتى بريطانيا واسبانيا. كما هي مرتاحة الى وضع جوارها الاقليمي المتمثل بالاردن وتركيا والسعودية بالاضافة الى مصر وايران. ومن المؤشرات الايجابية ان مجلس التعاون الخليجي الذي يعد حليفاً اقليمياً لواشنطن طالب بوقف التهديدات ضد سوريا.

بالطبع إسرائيل تحاول ان تدفع واشنطن لاستخدام القوة العسكرية ضد سوريا في مرحلة مبكرة او الحصول على ضوء اخضر أميركي لتقوم هي بعمل عسكري ضد سوريا. وتجهد تل ابيب لضمان استمرار الضغط الاميركي على سوريا لتحقيق اهداف اسرائيلية محددة تقع خارج نطاق المسالة العراقية، وهي: ابعاد حزب الله عن جنوب لبنان وتجريده من السلاح ونشر الجيش اللبناني محله، وطرد زعماء المنظمات الفلسطينية من دمشق ولا سيما الجهاد الاسلامي وحماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين واقفال مكاتبها.

وأتصور ان العلاقة الاميركية ـ السورية مرشحة الى الجمود عند نقطة الصفر فلا تتراجع اكثر، ويمكن ان تتحسن بعض الشيء في المراحل المقبلة في حال عادت الاتصالات بين العاصمتين. فمن المعلوم ان الولايات المتحدة قادرة على خوض الحروب العسكرية وكسبها منفردة، لكنها لا تقدر على التوصل الى التسويات السياسية وتطبيقها منفردة، فهي لا تحتاج لأحد في حربها على العراق، لكنها تحتاج الى ايران وتركيا وسوريا في ترتيب اوضاع عراق ما بعد صدام حسين.

وأتخيل ان واشنطن ودمشق تلتقيان على رفض «لبننة العراق». الادارة الاميركية لم تنسَ ان المارينز خسروا ما يقارب250 قتيلا في لبنان، في حين ان الجيش الاميركي لم يخسر اكثر من 125 قتيلاً في كل حربه على العراق. الولايات المتحدة تربح الحروب العسكرية لكنها تخسر حروب العصابات، وهي تدرك ما حصل لجيشها في فيتنام وفي لبنان، وما حصل للجيش الاسرائيلي في لبنان وما يحصل له في الاراضي الفلسطينية.

من جهتها تقف دمشق ضد «لبننة العراق» من منطق وقوفها ضد تقسيمه. وكما دافعت سوريا عن وحدة لبنان فانها ستدافع عن وحدة العراق وتخشى من «لبننته» بمعنى تقسيمه. التقسيم يهدد وحدة سوريا، في حين ان المشروع الاسرائيلي يقوم على تقسيم العراق بهدف تقسيم سوريا ولبنان والعديد من الدول العربية لتحقيق هدفين: أولهما توطين الفلسطينيين حيث يقيمون خارج فلسطين، وثانيهما قيام شرق اوسط جديد على اساس إسرائيل الكبرى الى جانب دويلات عربية صغيرة ومتقاتلة. في المحصلة إسرائيل هي التي تعمل «للبننة» العراق وليس سوريا.

وفي رأيي ان أفضل ما تفعله واشنطن هو ان ترتب اوضاع العراق ضمن الامم المتحدة وبالتعاون مع الجوار العراقي، وان تسحب جيشها في اسرع وقت وتترك العراقيين يقررون مصير وطنهم بأنفسهم فتحول دون «لبننة العراق».