الإعلام .. وترميم العقول!

TT

الجراح من الممكن ان تلتئم ويتم ترقيع مكانها على يد أمهر الجراحين، لتصبح مع الوقت مجرد ندبات لا يتذكرها المرء إلا حين يتحسس موضعها بأنامله، ثم يترحم عليها ويسقط ذكراها مرة اخرى في قيعان النسيان، أما الكلمة الحرة فهي باقية حتى بعد ان يذهب قائلها لأن الافكار الحقيقية تورث مثل الاموال مع الفارق بأن ثروة المال قد تتبدد، لكن ثروة العقول تظل الاجيال تحملها جيلا بعد جيل، لذا صدقت الامثال الشعبية القائلة بأن الكلمة دويّها أشد وقعا على الانسان من طلقات الرصاص، وكم من عبارات ملتهبة ساهمت في تحرير الاوطان من نير الظلم والاستبداد، وكم من أشعار حماسية أدت الى ارساء معالم الحرية والعدل والمساواة.

هذه الحقيقة التي يعرفها الجميع دفعت الانظمة العربية التي تؤمن بنظرية القمع، الى كبح جماح الكلمة في اوساطها الاعلامية بأقسامها المتباينة، حتى لا يؤدي ترك الحبل على الغارب الى تأليب الرأي العام، والى كشف الحقائق امام شعوبها، وبالتالي الى الثورة على الكثير من الاوضاع المزرية المتفشية داخل مجتمعها! هذا يتضح في حرب الخليج الثالثة على العراق التي أدت الى اسقاط نظام صدام حسين، حيث كشف صحافي اردني بأن الصحاف وزير الاعلام العراقي اقتحم مبنى قناة «الجزيرة» وهو يحمل رشاش كلاشنيكوف، مهددا اياه بالقتل وقطع يديه من كتفيه ورميه في صحراء الرويشد ان اعلن في تقاريره المباشرة بأن القوات الامريكية اصبحت قريبة من بغداد. ويعد هذا التصرف نموذجا من السياسات المتبعة في الاعلام العربي وان اختلفت أساليبه من بلد لآخر! مع هذا يرى الكثيرون ان الصحاف كان نجم هذه الحرب بلا منازع، بسبب براعة أدائه الاعلامي، ودغدغته للمشاعر العربية، مما ادى الى تصديق الكثيرين لكل كلمة يتفوه بها، بل ان بعضهم عبروا عن افتقادهم له على شاشات التلفاز ولتصريحاته النارية، مما شجع احدهم على انشاء موقع على الانترنت باسم الصحاف! ألا تعتبر للأسف ردود الافعال هذه، دليلا قاطعا على ان الشعوب العربية، التي تربت على ثقافة الوهم، وعلى تدجين العقل، ونشأت على بهرجة الكلمات، وكبرت على بهرجة الاباطيل، تستعذب التهليل للأفاقين الذين يبيعون لها الماء في قرب مثقوبة، مع هذا يتنازعون على شرب قطرة منها، وينجذبون لايقاعات طبولها على الرغم من نشازها!

ليس هناك اخطر على المجتمعات الانسانية من تسميم العقول، لأن الانفلات الفكري هو نقطة الانطلاق للانحلال الخلقي. واباحة الفساد السياسي، ونشر التطرف العقائدي، والاصرار على تطويع الاعلام لخدمة مصالح خاصة للدولة، او الترويج لسياسة حاكم، او لتزييف الحقائق الموجودة على الارض، تعد جريمة كبرى في حق الشعوب، وان الاوان قد حان لخلق اعلام عربي حر مستقل، اعلام مسؤول، يخدم مطالب الشعوب لا مطامع حكامها، اعلام يسعى الى الشفافية ومعالجة العيوب العالقة بجسد المجتمعات العربية ولا يسخر للتطبيل والتهليل لأنظمة دكتاتورية، بشرط ألا تتعدى هذه المطالب استباحة وحدة المجتمعات من خلال إثارة النعرات الطائفية والفتن الدينية باسم حرية القول والفعل! بجانب اننا اليوم بحاجة كذلك الى اعلام يقوم ببعث رسائل مشفرة الى الرأي العام الغربي، نوضح فيه مواقفنا ونبرز قضايانا، حتى نسد الطريق على من يريدون تشويه صورتنا.. اعلام يتم تصديره للعالم من خلال انشاء قنوات اعلامية يتم بثها باللغة الانجليزية، التي غدت همزة الوصل بين دول العالم.

اننا لا نشكو من قلة القنوات الاعلامية، سواء مرئية او مسموعة او مقروءة، وانما نحن نفتقد لجودة المحتوى، واكبر مثال على هذا ما حققته قناة «الجزيرة» من انتشار بالاقطار العربية في سنوات قلائل، وسواء اختلفنا مع توجهات قناة «الجزيرة» او اتفقنا، الا ان هذا لا ينفي نجاحها في استقطاب ملايين من المشاهدين، وهو ما شجع على انشاء قناة «العربية» لمنافستها في الشارع العربي، لحصد نفس الثمار، مما يعني البداية لانتشار مناخ اعلامي نظيف يقوم على الشفافية، واحترام عقلية المشاهد العربي، ويصب في مصلحة الفرد العربي، ويقدم له المصداقية التي يفتقدها في قنواته الاعلامية الرسمية. اعرف أسرا قطرية تردد دوما انها فخورة بانتساب قناة «الجزيرة» لبلدها، لكنها متبرمة من كون القناة تلقي الضوء على السلبيات الحادثة في الدول العربية بصفة عامة والسعودية بصفة خاصة، متحاشية الحديث عن السلبيات الحاصلة داخل المجتمع القطري من تدهور للمرافق العامة وارتفاع نسبة البطالة واقتراب العديد من الاسر من خط الفقر، مما يرسم علامة استفهام قوية في دواخلهم، عن الرغبة في ترميم بيتهم من الداخل قبل معايرة الآخرين بتشقق حوائطهم!

وعلى الرغم من كل السلبيات التي يعاني منها الاعلام العربي، وانه اعلام مضطرب الفكر، معاق الاطراف، الا ان رفض المؤسسة العربية للاتصالات الفضائية «عربسات» طلبا امريكيا باستئناف بث القناة الفضائية العراقية، يعد موقفا جريئا يحسب لها، خاصة انها اشترطت ان يتم الاتفاق من خلال حكومة عراقية شرعية، ولإدراكهم ان للكلمة تأثيرا على المجتمعات اقوى من السحر كما يقولون، حيث تسعى امريكا الى بث رسائلها عبر القناة التلفزيونية العراقية.

لقد عبر الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى عن مقتل المراسلين الصحافيين في العراق، بأنه يعد أمرا خطيرا، كون هؤلاء يؤدون مهمة نبيلة جدا في نقل الحقائق من ارض المعركة، وهنا اجد نفسي اقف وقفة الحائر متسائلة عن الادوار النبيلة للاعلاميين وعن الثمن الباهظ الذي يدفعه بعضهم من اجل ايصال الحقيقة للناس، فهل نكتفي بعضِّ شفاهنا غيظا عما يجري اليوم في انحاء متفرقة من العالم لطمس الحقائق؟! أم نمسح دموعنا وندفن ضحايانا في محاولة مستميتة للسير الى الامام واقامة اشعاعات تنويرية حقيقية مرئية ومقروءة ومسموعة، تكون النبراس الذي يقود اجيال الغد لطرق اكثر أمنا وسلاما؟!