مستقبل المسألة الكردية: الفدرالية.. ربيع كردستان والعراق

TT

قبل يومين رن جرس الهاتف في مكتبي. رفعت السماعة. بادرني المخاطب من الجهة الاخرى قائلا: في قناة «كردسات» الآن نقل حي من مسقط رأسك (مندلي).. الاعلام الكردية ترفرف على مباني البلدة!

مندلي، قناة كردسات، رايات كردية ماذا تعني هذه المسميات؟ مندلي بلدة حدودية تتبع محافظة (ديالى)، وتقع على خط مستقيم الى الشرق من العاصمة بغداد.

كان غالبية سكانها من الكرد الشيعة، وكان فيها اقلية تركمانية وعربية وكان الجميع يعيشون ومنذ عشرات السنين في فراديس بساتينهم اليانعة في وئام وسلام.

عندما اعلن قانون الحكم الذاتي عام 1970اعترفت الحكومة العراقية بكردية قضاء مندلي، والحقت بمنطقة كردستان للحكم الذاتي، فأصبحت والحالة هذه اقصى التخوم الجنوبية لكردستان العراق. وفي ذلك الوقت نشط تنظيم «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بزعامة بارزاني الذي كان يقود ثورة الكرد في المدينة، وبموازاة هذا التنظيم بدأ حزب البعث الحاكم بالتسلل الى جسد البلدة الهادئة من خلال افراد كان يقودهم (مزبان خضر هادي) ذو الاصول الكردية، وما ان انهارت اتفاقية اذار بعد سلسلة من محاولات الاغتيال الفاشلة لزعيم الحركة (بارزاني)، ووضع العصي في عجلات الاتفاقية من قبل الحكومة حتى بدأ ارهاب (مزبان) لتبعيث وتعريب المدينة: غرامات مالية على كل من يتكلم الكردية والسجن لمن لا يتقيد بالزي العربي التقليدي وفرض الانتماء الى حزبه بكل وسائل الترهيب والترغيب.

وشيئا فشيئا هجر سكان البلدة وقراها الى قرى ومدن ابعد بما فيها العاصمة بغداد، وهو ما فعلته غالبية عائلتي.

وفي مندلي لمع نجم (مزبان) فتدرج بالمناصب الحزبية والحكومية حتى اصبح عضوا في القيادة القطرية ومسؤولا عن قمع عدة محافظات جنوبية (الفرات الاوسط) واخيرا احد المطلوبين في قائمة (الكوتشينة) الاميركية!

ومندلي مثال على ما جرى لقرى وبلدات ومدن كردستان العراق تحت حكم حزب عنصري فاشي استخدمه دكتاتور دموي ليكون اداة لتنفيذ نزواته وقمعه وغزواته على مواطنيه وجيرانه وتدمير حاضر البلاد ومستقبلها والآن ماذا يعني وجود اكثر من راية وفضائية كردية؟!

بدأت الثورة الكردية في التاريخ الحديث من كردستان تركيا (12 مليون نسمة) ولكنها كانت تقمع وتباد بكل وحشية، كما تم نقل مئات الالوف من الكرد الى مناطق بعيدة اخرى من تركيا وتعرضت مناطقهم الى اهمال متعمد ومنعوا من التحدث بلغتهم على اعتبار انهم ليسوا سوى (اتراك جبليين).

غير ان الكرد هناك وبرغم كل الممارسات القمعية نظموا انفسهم لاحقا في العديد من الاحزاب السياسية المقنعة والسرية ومن هذه الاحزاب السرية برز (حزب العمال الكردستاني) برئاسة عبد الله اوجلان وكان لحزب العمال رايته المختلفة بلونها وشكلها.

آخرون ناضلوا بطريقة اكثر لينا والكثير منا يعرف (ليلى زاتا) وزملاءها الذين انتخبوا عن المنطقة الكردية من خلال صناديق الاقتراع ورفضوا ان يذعنوا لحلف اليمين التركي، فاعتقلوا وحوكموا بقسوة وزجوا في السجن.

نضال الكرد في تركيا وطموح الترك للدخول في الاتحاد الاوروبي والمتغيرات الدولية التي تحركها تيارات الديمقراطية واحترام حقوق الانسان دفعت بالعسكريين والسياسيين الترك الى الاعتراف بالوجود الكردي وبعض حقوقه القومية وكان للرئيس (توركوت اوزال) السبق في المساهمة في هذا المجال.

رياح التغيير في تركيا تشير الى ربيع كردي قادم، وما الاعلان عن اعادة محاكمة (زاتا) وزملائها الا محاولة لنزع فتيل مرحلة اتسمت بكل اشكال الابادة والوحشية ومصادرة حقوق شعب كامل.

اعتقل اوجلان كما نعلم وتحت ضغط الاتحاد الاوروبي وشروطه الصارمة تخلت تركيا عن اعدام المعارضين ومنهم اوجلان واعلن حزبه في بادرة حسن نية التخلي عن الكفاح المسلح، ولكنه لم يتخل عن قناته الفضائية (كوردش ميديا) التي انطلقت من بروكسل (مقر الاتحاد الاوروبي) وحققت طفرة نوعية كبيرة في مجال الاتصال والسياسة والثقافة والفن في كل ارجاء كردستان وكذلك ايصال الصوت الكردي الى كل مكان في المعمورة.

وفي الواقع رفع محمود الحفيد خلال العشرينات من القرن الماضي راية الكرد واعلن نفسه ملكا على كردستان، لكنه اصطدم بطلائع القوات الانجليزية الغازية التي تقدمت من الجنوب.

دخل الحفيد في معارك شرسة مع القوات الغازية التي كسرت شوكته ونفته لتضم ولاية الموصل الى الدولة العراقية الحديثة. وهنا نشأ النزاع على هذه الولاية ذات الاغلبية الكردية بين الانجليز والترك (المحتلين السابقين) فأرسلت عصبة الامم هيئة دولية مستقلة لاستفتاء السكان، فوضعت الهيئة خيارين لا ثالث لهما: الانضمام الى الدولة العراقية مع التمتع بحقوق قومية محدودة او الحاقهم بتركيا.

الغالبية الكردية في الولاية (محافظات الموصل، كركوك، السليمانية، اربيل، دهوك) اختارت البقاء مع دولة العراق وبذا تم قبر الاطماع التركية في كردستان الجنوبية (العراق). انتقلت حمى الثورة بعد ذلك الى كردستان ايران، فتأسست الاحزاب الكردية، وتم الاعلان عن جمهورية (مهاباد) الكردية المستقلة خلال الاربعينات من القرن الماضي. رأس الجمهورية الوليدة (القاضي محمد) وكانت حقيبة وزارة الدفاع لزعيم كردي عراقي طموح هو مصطفى بارزاني: قمعت الجمهورية من قبل شاه ايران بقسوة واعدم زعماؤها، لكن بارزاني وخمسمائة من رجاله حملوا راية ثورتهم ولجأوا الى الاتحاد السوفياتي السابق.

وفي تحول لافت حدث انقلاب عسكري على الحكم الملكي في العراق عام 1958 واستدعي بارزاني من منفاه بموسكو للتفاوض على حقوق شعبه الكردي مع الزعماء الجدد في العراق.

واستقبل بارزاني من قبل (الزعيم) عبد الكريم قاسم، وتباحثا على المرحلة الجديدة.

لكن شهر العسل لم يدم طويلا، فالحكم الذاتي الذي كان يطالب به بارزاني لم يتحقق مما دفعه وهو رئيس للحزب الديمقراطي الكردستاني الى اعلان حرب عصابات قاسية في جبال كردستان الوعرة.

اصوات اخرى داخل حزبه ارتدت طابع اليسار ارتفعت لتعلن عن تأسيس حزب جديد، ورفع راية جديدة. فالحزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان يرفع بالاضافة الى علم كردستان بالوانه المتعددة والشمس الساطعة في وسطها رفع رايته الخاصة ذات اللون الاصفر، اما الحزب الجديد فقد اختار اللون الاخضر راية له.

رئيس الحزب الجديد (الاتحاد الوطني الكردستاني) جلال طالباني وبقية القصة تكاد تكون معروفة للجميع، فباعلان انقلاب حزب البعث عام 1968 بدأت المفاوضات من جديد مع قيادة بارزاني، وكان رأس حربة الحكومة المركزية في تلك المفاوضات (صدام حسين) الذي لم يكن يشغل آنذاك حقيبة وزارية معينة، لكنه كان يحرك الاحداث بقوة.

واستطاع ان يتوصل الى اتفاق مع الفريق الكردي المفاوض الذي ضم شابا يافعا خلف والده لاحقا في زعامة الحزب والحركة وكان هذا الشاب مسعود بارزاني الذي يقود منذ التسعينات جانبا كبيرا من الاقليم الكردي المحرر ولحكومته قناة فضائية تعرف باسم KTV مثلما تملك حكومة طالباني قناة «كوردسات» . وفي مطعم صغير ببرلين قضى جهاز الاستخبارات الايراني على العديد من قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني في ايران ولكن انتكاسة المحافظين امام خطوات (خاتمي) الاصلاحية عجلت في تحقيق نوع من التقدم في حقوق الكرد هناك.

فبالاضافة الى ان جزءا من كردستان الايرانية يسمى بمحافظة (كردستان)، ولها محافظها الكردي المنتخب ونوابها في البرلمان الايراني، فإن الثقافة الكردية بدأت هي الاخرى بالانتعاش، اذ صدرت العديد من المجلات باللغة الكردية واقيمت العديد من الجمعيات والفرق الموسيقية والغنائية، كما تم انتاج افلام سينمائية باللغة الكردية سواء من قبل المخرجين الايرانيين او الكرد.

واذا عدنا الى صورة كرد العراق في محميتهم فاننا نجد انفسنا ازاء (دولة داخل دولة) اذ استطاع القادة الكرد بلورة صيغة حكم قائمة على صناديق الاقتراع وتقاسم السلطة رغم كل شرور صدام وحقل الشوك المحيط بهم، الذي لم يجتمع وزراء داخليتهم الا للتخطيط لاحباط اي تقدم يحققه الكرد في اي رقعة من اراضيهم وكان آخرها الدعوة المتأخرة واليائسة لوزير خارجية ايران المحافظ كمال خرازي.

يدعو كرد العراق وبوضوح الى عراق يقوم نظامه على الديمقراطية والتعددية والفدرالية وهو النظام الواقعي الوحيد (بنظرهم) الذي يضمن حقوقهم وحقوق المواطنين العراقيين من العرب والكرد والتركمان والاشوريين والكلدان والارمن.

ولا شك انهم حققوا تقدما كبيرا في بناء منطقتهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ووفروا للمواطنين في منطقتهم ليس فقط الكرد، بل التركمان والاشوريين المشاركة في الحكم واقامة الاحزاب والجمعيات والمدارس والصحف التي تصدر بلغاتهم القومية، وهو ما لم يحدث في اي وقت سابق وفي اية بقعة اخرى من كردستان، وهو ما ساعد السياسيين العرب وغيرهم في العراق على ايضاح رؤية جديدة للعراق الجديد.

وهو ما شهدناه في اجتماع لندن للمعارضة العراقية واجتماع (اور) في الناصرية الذي صادق على الفدرالية كحل واقعي لعراق تعددي ديمقراطي.

واخيرا اود الاشارة الى بعض الاصوات المبحوحة من خارج (الوطن العراقي) التي تحاول ان تحذر من الكرد، وتنحو باللائمة عليهم بدون سبب معقول، ومثال على ذلك ما جرى اثناء اسقاط (صنم) صدام في ساحة الفردوس حين كانت قناة (الجزيرة) القطرية تنقل الحدث على الهواء.

القناة القطرية لم تجد من تتصل به لتستطلع رأيه سوى احد القوميين الناصريين الذين اكل الدهر عليهم وشرب الذي قال بأن من يسقط صنم الدكتاتور ما هم الا حفنة من الاكراد!!

يتشرف الاكراد بالطبع بالمساهمة في اسقاط صدام واصنامه، لكن بغداد وبدون شك هي عاصمة العراق وغالبيتها بدون شك من العرب ومن اسقط التمثال وصاحب التمثال كان ومثلما رأينا جميعا الامريكان.

واذكر ايضا بمشاهد المعاملة التي وجدها الجنود العراقيون عند المقاتلين الكرد (البيشمركة) في محيط الموصل وكركوك وكيف اصرت عناصر البيشمركة على انهم ليسوا سوى ضيوف عليهم.

والحقيقة التي يعرفها (عرب العراق) جيدا هي ان جنودهم الذين كانوا يقعون في اسر القوات الكردية منذ بدأت ما كانوا يسمونه بـ (حركات الشمال) منذ منتصف القرن الماضي كانوا يلقون دائما معاملة طيبة لم يكونوا يصدقونها.

فبعد اطلاق سراحهم كان الجنود العراقيون يتلقون السجائر (لمن كان يدخن منهم) ومبلغا من المال ليعودوا الى اهلهم.

بهذا الاسلوب وهذه المعاملة الانسانية الرفيعة كسب الكرد عقول وقلوب اخوتهم العرب في الوسط والجنوب.

وعليه تقابل دعوتهم اليوم لقبول شروط شراكة الوطن الواحد برحابة صدر من الجميع، وهو ما لا يدرك سره غلاة (القومجية) العرب.