سوريا مؤشر للسلوك الأميركي المستقبلي في المنطقة

TT

ذكرت في الجزء الأول انه كانت لدي معلومات عن ضغط اميركي على اسرائيل حدث خلال اجتماع في البيت الابيض حضره ممثلون عن حكومة شارون وكذلك اصدقاؤها في البيت الابيض الممثلون بلويس ليبي من مكتب نائب الرئيس وكذلك المسؤول عن الشرق الاوسط في البيت الابيض إليوت إبرام، ومن وزارة الدفاع المساعد دوغلاس فايث، المعروف بعلاقته الحميمة بنجم الليكود في واشنطن بنجامين نتانياهو. في هذا الاجتماع وكما اوضح مراسل صحيفة «النيويورك تايمز» طلب البيت الابيض من اسرائيل وكذلك من اصدقائها التحرك بسرعة في موضوع خارطة الطريق بهدف منح الادارة غطاء سياسيا لما يحدث في العراق، يهدف هذا الغطاء السياسي الى مساعدة اميركا اولا ثم الى تخفيف الضغط السياسي عن اصدقائها في المنطقة، وخرجت الرسالة من البيت الابيض الى الخارجية ومنها الى العواصم المختلفة، وكذلك في ما يخص وجود جماعات فلسطينية على اراضيها مثل جماعة الجهاد الاسلامي، وكذلك في ما يخص اسلحة الدمار الشامل وعلاقة سوريا بايران، ومسألة ايواء الهاربين من نظام صدام المنحل او المنهار. هذه المطالب هي ايضا نفس المطالب التي سيعيد كولن باول وزير خارجية اميركا ترديدها على اسماع القيادات السورية، مضافا اليها مطلب آخر يخص التغيير الداخلي السلمي في سوريا عن طريق ابعاد اعضاء الحرس القديم وضم بعض من الرجال الذين يعتقد البنك الدولي بقدرتهم على القيام بمهمة الاصلاح الاقتصادي في سوريا. هؤلاء الرجال الذين سيرضى عنهم البنك والصندوق الدوليان هم في نهاية التحليل رجال سترضى عنهم اميركا ايضا.

دمشق ربما لا تلبي كل هذه الطلبات ولكن ما يرضي الاميركيين لا يقل عن ثمانين في المائة منها «our bottom line is 80%» هكذا قال احد المسؤولين الاميركيين، اي انه لن يقبل بأقل من تلبية 80% من هذه الطلبات.

ورغم ان زيارة كولن باول تبدو على السطح كأنها انفراج في العلاقات الاميركية ـ السورية، الا ان المحللين الجادين يرونها شبيهة بلقاء طارق عزيز وجيمس بيكر في جنيف قبيل حرب تحرير الكويت، ذلك اللقاء الذي اعلن فيه جيمس بيكر «مع الاسف، ايها السيدات والسادة، لم تستجب القيادة العراقية»، جملة كانت بمثابة اول طلقة في حرب تحرير الكويت. لكنني أرى ان الامر لا يصل الى هذه الدرجة من التشدد مع دمشق. فبالفعل اميركا لا ترى فائدة في استخدام القوة العسكرية تجاه سوريا، ولكنها ستستخدم التهديد العسكري من اجل الحصول على تنازلات سياسية.

وقبل ان نتطرق الى تفاصيل العلاقة بين سوريا والولايات المتحدة لا بد وان نسأل: كيف اوصلت سوريا نفسها الى هذا المأزق وهي الدولة المعروفة عنها الحصافة السياسية، وقدرتها العالية على المناورة؟! يزيد الامر تعقيدا ان السوريين قادرون على قراءة الاحداث، اذ انهم وقعوا على قرار مجلس الامن 1441 من خلال ضمانات ومفاوضات بينهم وبين حكومة جورج بوش، وقيل ان الذي وافق على قرار 1441 هو الرئيس بشار الاسد نفسه ولم يخبر حتى فاروق الشرع بذلك. هذا اضافة الى ان سوريا تعاونت مع اميركا استخباراتيا في اليوم التالي لـ11 سبتمبر 2001.

اذن ماذا حدث كي تأتي سوريا في مرمى المدفع الاميركي؟

اولى المشاكل السورية هي اساءة قراءة السوريين للحرب في العراق، اذ يبدو ان سوريا، ولا تختلف في ذلك عن كثيرين، اخذت موضوع المقاومة العراقية مأخذ الجد، وظنت، وزيادة منها في الحصافة والمراهنة السياسية، ان المقاومة العراقية ستمتد، وقد تغرز اميركا في رمال العراق ولمدة ستة اشهر او عام، وقد يتطلب ذلك انقاذا سياسيا لأميركا. وجهزت سوريا نفسها ان تكون هذا المنقذ السياسي، وفتحت جسورا مع حزب البعث العراقي، الذي تبغضه منذ زمن بهدف ايجاد دور لها. ولكن تتابع احداث الحرب ادى الى انهيار نظام صدام وبدا كحائط تهاوى على رأس السوريين الذين راهنوا على صموده. لقد تورط السوريون في علاقة مع بعث العراق في اللحظة الاخيرة، علاقة رفضوها لأكثر من ثلاثين عاما وتحملوا تبعات هذا الرفض، مع ذلك لم يستطيعوا اكمال صيامهم عن هذه العلاقة وافطروا قبل غروب الشمس بلحظة واحدة. اساءة قراءة اللحظة الاخيرة هي اهم العناصر التي وضعت سوريا في هذا الموقف الحرج، اذ هيأت سوريا نفسها للعب دور في العراق، ليست لديها القدرات او حتى الادوات للعبه في وجود الغوريلا الاميركية في المنطقة.

ولكن اساءة القراءة هذه لم تكن وحدها التي اغضبت الاميركان واثارت حفيظتهم تجاه سوريا. اذ بدأ الغضب الاميركي يظهر على السطح من خلال ما وصفه بعض الاميركيين المقربين من البيت الابيض عندما بدأت تلعب سوريا دورا مناهضا لاميركا، وعندما ـ حسب رأي بعض الاميركيين ـ نجح التنسيق ما بين فاروق الشرع وعمرو موسى لافشال مبادرة الشيخ زايد من ناحية، وافشال مهمة اللجنة العربية الرباعية من ناحية اخرى، كل هذا فسره الاميركيون على انه دور عدائي بسبق الاصرار والترصد.

والناظر الى مصادر الاتهامات الاميركية لسوريا يهاله المشهد. فأطراف الحملة الاميركية على سوريا متعددة، اذ بدأت من خلال تسريبات من المخابرات المركزية عن قدرات العراق البيولوجية والكيماوية وكذلك في ما يخص حماية النظام السوري لاعضاء من نظام صدام المنهار. كذلك كانت هناك اتهامات واردة من وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد وبعض اركان وزارته، واكتمل الثلاثي من خلال انتقادات ظهرت من البيت الابيض، تبعتها اتهامات من الخارجية الاميركية. وما ان اكمل اركان الادارة الاميركية اتهاماتهم حتى ظهرت ملامح حملة اعلامية، هذا بالاضافة الى الجانب القانوني الذي تبناه الكونغرس منذ العام الماضي وهو المعروف بقانون محاسبة سوريا. وهذا القانون الذي طرحه السيناتور ريك سانتورم وباربرا بوكسر، هو مؤشر لكشوف حساب ستفتح ليس بخصوص سوريا وحسب وانما بخصوص دول اخرى في المنطقة. انه نوع من الثأر او حق الدم. ومشكلة اميركا مع سوريا في ما يخص القضايا المطروحة يعود تاريخها الى فترة رونالد ريغان وبداية ظهور حزب الله في لبنان في اوائل الثمانينات.

اذن مشهد العلاقات السورية ـ الاميركية يصب في اتجاه ضغط سياسي حقيقي لا مهرب لسوريا من التعامل معه.

ولن ينقد سوريا هذه المرة التعامل مع اميركا تحت الطاولة وتبني خطاب عالي النبرة في الاعلام، وذلك لأن الفجوة بين ما يقال وبين الفعل هي ضمن لائحة الاتهامات الاميركية. اي ان الاميركيين يقلقون من ما يعتبرونه خطابا سوريا مقلقا لهم في العراق، خطابا يحاول تعطيل الديمقراطية العراقية، يدفع حزب بعث موال لسوريا للوصول الى السلطة في العراق حسب الاتهامات الاميركية. اذن، الخطاب السياسي السوري لم يعد بعيدا عن رادار الادارة الاميركية.

ما يوضحه التعامل الاميركي مع سوريا هو مؤشر للسلوك الاميركي في المنطقة بعد حرب العراق، اي انه سلوك الدبلوماسية الخشنة المصحوبة بالقوة العسكرية الموجودة في اماكن قريبة.

التعاطي العربي حتى الآن ـ وخصوصا السوري ـ يبدو غير مدرك لحجم التغير في السياسة الاميركية بعد 11 سبتمبر، كما انه غير مدرك لحجم التغير بعد سقوط نظام صدام حسين. الادارة الاميركية بعد حرب العراق كلها آذان صاغية في ما يخص القصتين الكبيرتين في الشرق الاوسط والعالم. هاتان القصتان هما السلام والحرب ضد الارهاب، من يتحدث الى واشنطن في اطار هاتين القصتين ستسمعه الادارة. اما من يريد الحديث عن الكيل بمكيالين او عن العودة الى معاهدة عدم الانتشار النووي NPT التي تبناها عمرو موسى منذ عامين وفشل فيها فشلا ذريعا، فمآل مثل هذا الحديث هو نفس مصير معاهدة الـNPT وقد فشل فيها موسى وسيفشل فيها الشرع ايضا. واشنطن غير مستعدة للاستماع للتفاصيل، وهذا ما رأيناه من خلال تعامل واشنطن مع اعضاء اللجنة الرباعية قبل حرب العراق الاخيرة.

قد يراهن البعض على ان نشوة الانتصار بالنسبة لواشنطن قد تنتهي مع زيادة المقاومة العراقية او تعقيد المشاكل في العراق، مثل هذا الرهان لن تختلف درجة نجاحه عن الرهان على مقاومة بغداد للغزو من خلال حرب الشوارع. اميركا غرزت ولفترة طويلة قادمة، في رمال الشرق الاوسط، وان وجودها في العراق لا يقل عن كونها الوريثة الشرعية للامبراطورية البريطانية في المنطقة، رغم نفي الاميركيين لذلك، وقد يكون دور العراق الجديد في المنطقة شبيها بدور مكتب الهند في عهد الامبراطورية البريطانية.

موضوع سوريا مناسب لكل هذا لأن في سوريا كل الموضوعات المطروحة على طاولة الاعمال الاميركية في الشرق الاوسط. سوريا متهمة بالارهاب وبامتلاك اسلحة الدمار الشامل. وهي ايضا متهمة بإعاقة السلام العربي ـ الاسرائيلي. ومتهمة ايضا بانتاج خطاب دعائي يعوق التغير السياسي المتوقع في المنطقة.

ان تفكيك الموضوع الاميركي ـ السوري الى اساسياته ولبناته الاولية يعطينا مؤشرات واضحة على السلوك الاميركي المستقبلي في المنطقة، سلوك يتسم بدبلوماسية خشنة متبوعة بفوهة البندقية.