سلطة المواطنة بالعراق تتحرك لملء فراغ السلطة

TT

بعد سقوط نظام صدام حسين، ومع وجود قوات التحالف فوق ارض العراق اخذت سلطة المواطنة في القاعدة الشعبية تتحرك لملء فراغ السلطة، واقامة نظام جديد يحكم فيه العراق الجريح نفْسَه بنفسه: عراق واع بمسؤوليات الساعة، مصمم على ان يجتاز المحنة بعزم وهو موحد الصف مرصوص البنيان.

عراق اليوم يعيش ثورة شعبية تلقائية لا يقودها فردٌ او جماعة، ثورةً تكسر الاغلال التي طُوِّق بها عنق شعب العراق ما يناهز نصف قرن، وتتوفر على مشروع لنظام حكم بديل يعمل على احداث تغيير شامل وبناء عراق جديد.

وقد ظهرت على المشهد السياسي قوات سياسية ونقابية كُمِّمت طيلة العهد السابق افواهها، وتسارع المواطنون تطوعا ومجانا لملء فراغ السلطة وتقديم الخدمات الانسانية التي يحتاج اليها شعب العراق بعد تدمير وتخريب العراق من لدن الغزاة.

وتجري هذه الثورة فوق ارض العراق متمثلة في المظاهرات الشعبية التي تملأ كل يوم الساحات العريضة والشوارع الكبرى في المدن على اختلاف حجم سكانها. والظاهرة المثيرة للانتباه في هذه المظاهرات هي ما تحمله شعارات الجماهير من دلالات ينبغي التوقف عندها لفهمها جيدا بما يساعد على فهم طبيعة مرحلة اعادة البناء التي تصنعها وتشكلها هذه الثورة السلمية الحضارية.

عدةٌ من الشعارات استوقفتني عندها وشدتني اليها. ومن بينها شعار يقول: «لا صدام ولا اميريكا». وثان يقول: «بالروح، بالدم، نفديك، يا عراق». وثالث يقول: «وحدة وطنية: لا سُنية فيها ولا شيعية، ولا كُردية ولا آشورية». ورابع يقول: «عراقُ الحضارة سيدُ نفسِه». وشعارات اخرى ما اكثرها لا تختلف في دلالاتها البليغة عن مضامين هذه الشعارات الاربعة.

النظام العراقي الجديد الذي تضع سلطة المواطنة قواعد صرحه على صعيد الساحات والشوارع وداخل المساجد يتشكل من مجموع الشعارات المطروحة التي تنطلق من افواه الجماهير التي لا يبدو عليها انها تصنع النظام الجديد تحت تأثير الانفعال او الغضب او الحقد، مما يعني ان الثورة الصاعدة بناءة حكيمة اختمرت في اذهان شعب العراق طيلة الاعوام المظلمة التي تقشعت سُحُبها بسقوط النظام الاسبق.

الشعار الاول القائل: «لا صدام ولا اميريكا» يرفض في آن واحد الديكتاتورية الصدَّامية والاحتلال الاميريكي، لانهما يلتقيان على قاسم مشترك واحد. اذ الاستبداد هو الاخ الشقيق للاستعمار، بل هما توأمان من رحِم واحدة يلتقيان معا على قهر الشعوب المغلوبة على امرها، لشل ارادتها واذلالها، وتسخيرها للقهر والطغيان، والعمل على مسخ ذاكرتها، والايحاء اليها بان قهرها إنْ هو الا وسيلة لاصلاح اوضاعها وحمايتها واسعادها. انهما قناعان لوجه واحد.

وهذا الشعار رسالة موجهة الى قوات التحالف ان تحزم حقائبها وتبادر الى الرحيل. وهو ما يطالب به طيف المجتمع الدولي بجميع الوانه، وفي مقدمته جبهة اقطاب معارضة الحرب التي اجمعت في لقائها الثلاثي بموسكو على وجوب الانسحاب. وهو ما نادت به شعوب العالم في مظاهراتها المندِّدة باحتلال العراق، والتي لم تتوقف حتى بعد سقوط نظام الديكتاتورية الاسبق. وهو ايضا ما اجمع عليه لقاء الدول المجاورة للعراق التي انعقدت بالرياض الاسبوع الماضي بدعوة حكيمة من المملكة العربية السعودية.

وهذا الشعار يقول ايضا ان شعب العراق يرفض ان يُحكَم بأية سلطة تضع قيود الحجر على ارادته، سواء كان الحاكم فيه بأمره يحمل اسم صدام حسين العراقي، او اسم احد الجنرالات الاميريكيين «تومي فرانكس»، او «جاي غارنر»، او اسم حاكم عراقي عميل للاجنبي.

اما الشعار الثاني: «بالروح، بالدم، نفديك، يا عراق» فقد كان في الاصل يرتفع فوق ارض العراق على نفس الصيغة ويخاطب فيه «فدائيو صدام» ديكتاتور العراق الاسبق، لكن استبدلت الجماهير المتحررة من قبضة النظام القديم باسم صدام اسم العراق. وهو ما يعني ان الجماهير لا تدين بالولاء الا للوطن الواحد، وتشجب الحكم المشخَّص في «السيد الرئيس حفظه الله ورعاه»، وتعتبر ان لا فرد حاكما في العراق يستحق ان يبذُل شعبُ العراق لفدائه روحه ودمه، وان سلطة المؤسسات ودولة الحق والقانون هي التي تعلو على سلطة الحاكم، وهي وحدها التي تطاع. ومن اجل حمايتها والدفاع عنها تُبذَل التضحيات بالروح والدم وليس من اجل الحاكم الفرد، وخاصة اذا كان مستبدا يختصر الشعب في شخصه او ينتصب على رأسه ويقدم نفسَه على انه ضميره ومخلِّصه وحاميه.

وقد ظهر من وقائع الحرب ان شعار «نفديك، يا صدام، بالروح بالدم»، لم يكن ينطلق الا من حناجر مغلوبة على امرها، او مأجورة يؤدى لها ثمن اتعابها قبل او اثر كل صيحة، اذ لم تسل الدماء لحماية صدام من فدائيي صدام. وها هي الجماهير تعيد الامور الى نصابها، وتعلن ولاءها لعراق المؤسسات. وهي في هذه المرة صادقة تؤمن بما تقول وقادرة على تنفيذ ما تقول اذا استمر الاحتلال وتحدى ارادة شعب العراق الذي يطالب بجلائه.

علينا ان نذكر هنا ان من اسباب خسارة النظام الاسبق للحرب العدوانية التي شنها التحالف على العراق غياب البعد الديمقراطي عن سلوك النظام وتصوراته وممارساته، وان الشعب العراقي لم يكن راضيا بواقعه المفروض، بل لم يعتبر انه معني بالمعركة التي استهدفت اسقاط نظام القهر وربما باركها في نفسه. لذا وقع ما قال عنه صدام انه خيانة مفاجئة في حين ان الامر يتعلق بعزوف الشعب عن خوض المعركة التي كان يرى فيها شرا لا بد منه.

ان في ذلك درسا وعبرة لنظم الحكم القائمة عبر العالم يفرضان عليها افساح المجال لشعوبها في المشاركة الديمقراطية انطلاقا من تحرير الفرد والجماعة وانتهاءً الى اختيار الحاكمين عن طريق الاقتراع.

ان شعوبا محررة من القهر، فاعلة في صنع مجتمعاتها، ممارِسة للمسؤولية هي وحدها القادرة على مقاومة المحتل الغاصب. وهي التي تشكل الدروع البشرية التي تنتصب حصونا مانعة على طريق الاحتلال الدخيل الذي قد تهزم قواته المسلحة الدول والنظم، لكنها لا تَقْوى على هزيمة الشعوب الحرة المؤيدة لنظامها والمتعلقة به قلبا وقالَبا.

والشعار الثالث القائل: «وحدة وطنية» جاء معلنا برنامج الحكم الذي يريد شعب العراق ان يُقام عليه النظام العراقي الجديد: عراق واحد تذوب فيه الانتماءات الى الاعراق، والطوائف، والمذاهب الدينية، ولا مكان فيه لكيانات عرقية كردية او تركمانية او آشورية.

وقد كان مما يثلج الصدور ان يجاهر علماء السنة والشيعة بأن لا مكان بعد اليوم لشَرْذَمة العراق، وان الاسلام هو الموحِّ للسنة والشيعة، وان الوطن العراقي الواحد هو الذي يجتمع تحت رايته العراقيون بصرف النظر عن تنوع اصولهم واختلاف لوني عمائمهم (عمامة السنة البيضاء، وعمامة الشيعة السوداء). فالوحدة لا تتناقض مع التعددية. والعلاقات بينهما علاقة تكامل كما كان يقول «بول فاليري»: «لنُغْنِ وحدَتنا بتنوع تعدديتنا».

اما الشعار الرابع: «عراق الحضارة سيِّدُ نفسِه» فما اكثر دلالاته. فهو يشير الى تاريخ العراق الحضاري الضارب في القدم الذي ابتدأت حضارته في عهد ما قبل التاريخ، واستمرت بارزة المعالم طيلة سبعة آلاف سنة، وتوالت عليه جيوش الغزاة واندحرت وانسحبت تجر اذيال الهزيمة وبقي العراق شامخا. فشعب العراق برفع هذا الشعار يرفض ان تُنسَخ حضارته، او تُجتث جذورُه من ماضيه، او تُفرَض عليه ثقافة الغزو الفكري. والتاريخ لا بد ان يعيد نفسه. ومحنة العراق الى زوال. والذهب النُّضار لا تحرقه النار، بل تصقله وتزيده لمعانا وضياء. ومستقبل العراق واعد. ويذهب جُفاءً زَبد النظم المستبدة وعدوان قوات الاحتلال التي تفسد في الارض. اما الشعوب التي تنفع وتُصلِح فتمكث في الارض.

وتمضي النظم وتبقى الشعوب