عندما تعلق العرب الغرقى بقشة صدام

TT

في التاسع من ابريل 2003، كان مشهد اسقاط «صنم صدام» في ساحة الفردوس بقلب بغداد، وسط حالة من «الصدمة والذهول»، وهي الحالة التي افترض المخططون للحرب الامريكية في العراق أن تحدث بجيش صدام ونظامه مع بدء الحرب.

لقد بدأ المشهد متعثرا حين تجمع عراقيون عند قاعدة التمثال، وأخذ فتى يضرب القاعدة بمطرقة مشابهة كما فعل الالمان الذين كانوا يضربون اساس «حائط برلين» حتى انهار وانهارت معه الشيوعية الستالينية، ولكن الفتى العراقي ورفاقه لم يفلحوا، فصعد فتى آخر وربط عنق تمثال صدام بحبل، ولكن المحاولة تعثرت. وتعثر المشهد عندما سعى العراقيون المتعثرون في الاطاحة بصنم صدام طالبين المساعدة من الجنود الامريكيين الذين كانوا يتحصنون بدبابتين ويراقبون الموقف بلا حراك. وتحركت احدى الدبابتين تحمل عشرات العراقيين، وصعد أحدهم يربط عنق التمثال بسلك فولاذي مشدود الى رافعة في الدبابة. وتبعه جندي امريكي لف وجه التمثال بالعلم الامريكي، ثم بدله فتى عراقي بالعلم العراقي ثم رفعه وتحركت الدبابة الى الخلف، فمال التمثال لفترة ثم سقط وانهال عليه العراقيون بالركل وجروا رأسه في الساحة، وابدع العراقيون، مقارنة بالرفاق في النظم الستالينية بدعة ضرب «الكنادر» (الاحذية باللهجة العراقية) حيث تنافسوا في ضرب تماثيل وصور المهيب الركن بالكنادر في كل مدن العراق.

بيد ان مشهد الفرح العراقي بسقوط صنم الطاغية، قد دلل في تعثره على «دور» الدبابة الامريكية التي شجعت على حدوثه، بعد ان تشجعت على الغزو.

لقد كانت الدلالة الكبرى في المشهد ان الطغاة قد اتوا بالغزاة، أي ان الطاغية العراقي اتى بالغازي الامريكي وانه ايا ما كان الرفض الاخلاقي والشرعي للغزاة، فإن العراقيين فرحوا لسقوط الطاغية الذي تعثروا في اسقاط صنمه.

غير ان فرح العراقيين بسقوط صدام، قوبل بالمرارة والاحباط لدى العرب الصداميين الذين رفضوا تصديق «المشهد»، وراحوا يبرئون صدام بأنه ضحية «الخيانة»، بل ان بعضهم اعتبر فرحة الشعب العراقي «خيانة» للعراق وموالاة للغازي الامريكي.

لقد اصابت «الصدمة والذهول» الصداميين العرب بسقوط صنم صدام، بعد ان صدقوا ما قاله بأنه سيجعل مغول العصر «الامريكيين» ينتحرون على اسوار بغداد، وما قاله وزير دعايته الصحاف بأن العلوج الامريكيين والبريطانيين سيقبرون في دباباتهم داخل بغداد.

ورفض الصداميون العرب ان يحدثهم احد عن كوارث الطاغية بحق شعبه وجيرانه، تذرعا بأنه قد تحول الى «بطل» سيخوض معركة «الحسوم» في بغداد ولكن الطاغية العراقي سلم بغداد دون دفاع واندحر قتيلا أو هاربا مع الاشاوس والاماجد من اركان حكمه الديكتاتوري، ودون مقارنة مع مثله الاعلى الاستبدادي ستالين الذي هزم الغزاة الالمان، بل ان صدام ورجاله لم يصمدوا كما صمد اللبنانيون خلال حصار بيروت الذي استمر لمدة ثلاثة اشهر، أو كما صمد الفلسطينيون في معسكر جنين امام الغزاة الاسرائيليين.

المؤسف ان العرب الغرقى في أوهام الوحدة ودحر امريكا لم يتعلموا دروس هزيمة 1967 وهزيمة 1991، واهمها ان الامم لا تتقدم ببضعة شعارات وابيات من الشعر وخطابات شعبوية تهييجية، تتعامى عن التعاطي مع الواقع وازمات الامة، وتتشيع للمشاريع السياسية الشمولية وتتنكر للديمقراطية وحقوق الانسان.

لم يتعلم العرب الغرقى في الاوهام الصدامية الدرس بعد حرب الخليج 1991، واعادوا «بعث» صدام برغم هزيمته وحصاره وتعاموا عن ديكتاتوريته وفساده، وانخرطوا في حملة تضليل للرأي العام بزعم ان صدام هو حارس البوابة الشرقية ضد ايران ومناوئ لامريكا ومعاد لاسرائيل في حين انه انهار امام ايران وامريكا واسرائيل.وعندما حزمت امريكا امرها في «تغيير النظام» الصدامي، لم يطق العرب الصداميون من كان يقول بأن صدام يمكن ان يتنحى عن الحكم في سبيل انقاذ العراق والشعب العراقي من حرب ضروس.فزع العرب الصداميون من هذه الدعوى ودمجوا بين الشعب العراقي وصدام وبين العراق وصدام.

وهؤلاء الصداميون ما ادخلوا يوما الشعب العراقي في حسابهم. فما تحدثوا عن الشعب العراقي عندما كان يتعرض للقمع والتعذيب والمعتقلات والتصفية الجسدية، ولم يتحدثوا عن الشعب العراقي عندما تعرض بعض اكراده للابادة الجماعية بالاسلحة الكيماوية، وعندما تعرض بعض شيعته واكراده للتهجير الجماعي القسري، ولم يلتفتوا الى ملايين العراقيين في المنفى القسري أو الاختياري من استراليا الى الساحل الغربي الامريكي، بل ان العرب الغرقى في الاوهام الصدامية، كانوا يباركون زج الشعب العراقي في محارق حرب غبية مع ايران لمدة ثماني سنوات ثم في حرب اغبى في الكويت.

لم يدخل الصداميون العرب في حسابهم الشعب العراقي لان غرقهم في الاوهام الصدامية منعهم من الوقوف الى محكومين يرزحون تحت حاكم طاغية يتشدق بشعارات قومية.

وعندما اندلعت الحرب الامريكية على العراق، وجد العرب الصداميون في التدخل الخارجي ذريعة للتوحد خلف صدام، واصبحت الصدامية قرينة «العروبة» و«الاسلامية» في مواجهة «الحملة الامريكية» و«الحملة الصليبية» ضد العرب والمسلمين وباتت «الديمقراطية» قرينة بالعمالة للغرب وامريكا واسرائيل.

وركب الصداميون العرب موجة الغضب العربي النبيل لحال العراقيين المدنيين لتوجيه تهم «العمالة» و«الخيانة» لكل من يتجرأ على نقد طغيان صدام ولابتزاز الصحف والفضائيات للاشادة بالمقاومة البطولية لميليشيات صدام، وليتحول الاعلام العربي الى اعلام صدامي يكرر كالببغاء اكاذيب دعاية سعيد الصحاف، ولتكون النتيجة تضليل الرأي العام العربي الذي اصبح يرى انتصار صدام قريبا ثم اعترته الصدمة والذهول حين رأى الدبابات الامريكية في وسط بغداد ثم سقوط تمثال الطاغية.

لقد تعلق العرب الغرقى في الاستبداد والتخلف بقشة صدام حسين الذي صور نفسه لهم على انه «عروبي»، «اسلامي»، «بطل»، في حين ان عروبته واسلامه وبطولته ما كانت الا شعارات حولها الى وسائل لايهام شعبه وبقية العرب.

ومن عجب ان نظما عربية بوسائل اعلامها الرسمية «الدعائية»، تعلقت هي الاخرى بقشة صدام واسهمت في تضليل الرأي العام، توهما بأن قشة صدام قد تنقذها من الغرق.

وكان حريا بتلك الانظمة ان تتنبه الى ان التعلق بقشة صدام لن يسقط «المطلب الديمقراطي» المستحق، ولن يرد العسكر الامريكيين الذين اصبحوا على الابواب، ولم يزل امام الصداميين العرب وبعض النظم العربية، إلا الوقوف الى جانب الحقيقة وتعلم الدرس وهو ان الطغاة يأتون بالغزاة، وان التحول الى الديمقراطية هو الحل لتحقيق اهداف الامة العربية في الازدهار الاقتصادي والوحدة واقامة الدولة الفلسطينية ولدرء ذرائع «الغزو الاجنبي» ولن يفيد هنا اتهام الشعب العراقي بخيانة صدام والترحيب بالغزو الامريكي، فطغيان صدام اوصل العراقيين الى ادراك ان أي نظام سياسي يتلو الغزو الامريكي لن يكون اسوأ من نظام صدام، وانهم بالديمقراطية سيتحررون من الغزو بعد ان تحرروا من الطغيان مثلما حدث في اليابان والمانيا وكوريا الجنوبية.