الكارثة الإنسانية في كوريا الشمالية

TT

يعتبر تخلي كوريا الشمالية عن مطلبها باجراء مفاوضات ثنائية مع الولايات المتحدة تطورا ايجابيا. فقد اعادت بيونغيانغ النظر على نحو مفهوم بحكمة استراتيجيتها في استثارة الولايات المتحدة عسكريا من اجل الحصول على المساعدة الاقتصادية والضمانات الامنية، غير انه بينما يمكن للمحادثات المتعددة الاطراف ان تلي ذلك، فسيكون من الخطأ ان تركز على وجه التحديد على القضية النووية، اذ ان الازمة الامنية لا يمكن حلها بأية طريقة دائمة بدون معالجة جوهر المشكلة: الجرائم الفظيعة التي يرتكبها نظام كوريا الشمالية ضد شعبه.

ومن الواضح انه سيكون من الصعب التوصل الى وضع نهاية لهذه الجرائم، غير ان المباحثات المتعددة تقدم فرصة غير مسبوقة لوضع قضية حقوق الانسان في كوريا الشمالية على الاجندة الدولية.

انها يمكن ان تقيم آصرة بين سلوك كوريا الشمالية الخارجي المتهور والسمة الوحشية لحكمها. ويمكن لهذا ان يبدأ عملية انهاء عهد الارهاب تحت حكم كيم جونغ ايل، الذي يعتبر العقبة الكأداء امام السلام في شبه الجزيرة الكورية واعادة التوحيد النهائي للكوريتين.

وتتميز الكارثة الانسانية التي ظلت حتى الآن مسألة ثانوية بالنسبة للجدل بشأن الانتشار النووي بوجود ثلاثة ابعاد متداخلة.

الاول هو المجاعة التي كانت مسؤولة عن موت ما يتراوح بين مليون وثلاثة ملايين شخص منذ اواسط التسعينات. والمجاعة ليست نتيجة الجفاف او الفشل في الزراعة، وليست نتيجة غياب آليات الاستجابة مثل الاعلام الحر، الذي يمكن ان يحذر الحكومات من نقص الغذاء. فالحكومة في كوريا الشمالية على دراية كاملة بالمجاعة، الى حد انها تستخدمها قصدا كسلاح ضد السكان الذين تصنفهم باعتبارهم الاقل ولاء للنظام. وبسبب التمسك بهذه السياسة منعت الحكومة وكالات الاغاثة من مراقبة عمليات تسليم الاغذية الى المناطق الاكثر تأثرا وحاجة.

وأدت المجاعة بالكوريين الشماليين اليائسين الى الهرب من البلاد، خالقة بذلك ازمة لاجئين تعتبر البعد الثاني من الكارثة الانسانية التي ابعدت بقية دول العالم انظارها عنها. فهناك ما يقرب من 300 ألف لاجئ كوري شمالي يختفون الآن في الصين خوفا من الامساك بهم واعادتهم قسراً الى البلاد.

ولأن كوريا الشمالية تعتبر عملية مغادرة البلاد دون اذن جريمة وتعرض الهاربين ممن تلقي القبض عليهم الى عقوبة شديدة، فإن الصين تتصرف بطريقة تكشف عن انتهاكها لالتزاماتها بمعاهدة 1951 الخاصة باللاجئين والبروتوكول الاضافي لعام 1967 الذي يمنع اية دولة من اعادة لاجئ قسرا الى «منطقة يشعر بالخوف من مقاضاته فيها». ان مكتب بكين للمفوض السامي لشؤون اللاجئين التابع للامم المتحدة مشارك في هذا الانتهاك للقانون الدولي، لانه رفض التأكيد على حقه في الاتصال، دون عوائق باللاجئين الذين يحتمل ان يزج بهم في معسكر اعتقال او يتعرضوا الى الاعدام بعد اعادتهم.

وهذا يطرح البعد الثالث للكارثة الانسانية وهو معسكرات الاعتقال في كوريا الشمالية. ويقدر ان منظومة السجون السياسية ومعسكرات العمل في كوريا الشمالية تضم ما يزيد على 200 ألف شخص، واذا ما اخذنا الظروف القاسية في هذه المعسكرات بالحسبان، فإن ما يقرب من 400 ألف سجين اختفوا خلال العقود الثلاثة الماضية. والتزاما بتنفيذ اوامر مؤسس كوريا الشمالية كيم ايل سونغ من ان الاعداء الطبقيين «يجب التخلص منهم عبر ثلاثة اجيال»، فإن الآباء والابناء والاحفاد والاقرباء الآخرين للسجناء يرسلون ايضا الى معسكرات الاعتقال ويعتبر الاجهاض القسري وقتل الاطفال ممارسة مألوفة، ذلك ان السجناء يعتبرون من اشباه البشر ولا يسمح لهم بامتلاك اطفال. ومن الطبيعي ان كوريا الشمالية تنكر وجود مثل هذه المعسكرات، غير انه في ديسمبر (كانون الاول) الماضي نشرت «فار ايسترن ايكونوميك ريفيو» صورا بالاقمار الصناعية لمعسكر في مقاطعة هويريونغ يضم 50 ألف سجين، مع مقابلات اجريت مع حراس سجن هاربين وصفوا ما كان يحدث في المباني المختلفة، بما في ذلك تلك التي يجري فيها تعذيب واعدام السجناء.

ان المجاعة واللاجئين ومعسكرات الاعتقال ليست مشكلات منعزلة وانما هي نواح تكشف عن النظام الاكثر اضطهادا في العالم اليوم. فكوريا الشمالية من بقايا الاستبداد الستاليني بأبشع صوره، وان سلوكها الابتزازي لا هدف له سوى تأبيد وجودها.

واذا كان لا بد من وجود عملية مفاوضات معينة من اجل انهاء الازمة الامنية الاخيرة، فإن الحكمة والاخلاقية البسيطة تستدعي ان تتضمن اية اتفاقية اجراءات لحماية اللاجئين وانهاء المجاعة. ان برنامجا اكثر طموحا يمكن ان يشتمل ايضا على ضرورة قيام كل الاطراف ـ وبينها كوريا الشمالية ـ بتأكيد احترام حقوق الانسان. ومثل هذا الاتفاق يمكن ان يصاغ على غرار مرسوم هلسنكي الختامي، الذي يربط الاعتراف الغربي بحدود ما بعد الحرب العالمية الثانية في وسط اوروبا، بمجموعة من مبادئ حقوق الانسان، وكان هذا واحدا من التوصيات الرئيسية التي اقرها الشهر الماضي مؤتمر حول حقوق الانسان في كوريا الشمالية عقد في براغ.

ولم يتوقع كثير من الناس عام 1975 احترام دول الكتلة السوفياتية للفقرات المتعلقة بحقوق الانسان في معاهدة هلسنكي. ولكن الاتفاقية بدأت عملية اعطت زخما لحركة حقوق الانسان وادت في نهاية المطاف الى انحلال الشيوعية.

وهناك مبررات اقل للاعتقاد بأن كوريا الشمالية يمكن ان تحترم مثل هذه الاتفاقية ذلك انها لا تؤدي الى تخل عما بعد الستالينية وتفتقر الى اي شيء يماثل حركة معارضة.

غير ان ذلك يتفادى المسألة الرئيسية وهي الحاجة الى البدء بعملية، فاتفاقية هلسنكي بالنسبة لشبه الجزيرة الكورية يمكن ان تنهي الصمت حول انتهاكات حقوق الانسان في كوريا الشمالية، وتزيد من الضغط الدولي على النظام، وتلزم الموقعين برؤية مختلفة بالنسبة لكوريا الشمالية عما هو قائم الآن. واذا ما ارتبط ذلك بسياسة احتواء راسخة، يمكن ان يوفر وسيلة لمنع اسوأ الانتهاكات التي تمارسها بيونغيانغ ووضع كوريا الشمالية تحت رقابة دولية اكبر وفك عزلة شعب كوريا الشمالية وهذه خطوات اولى عملية يمكن ان ترسي اساسا لتغيرات ابعد مدى في المستقبل.

* رئيس مؤسسة المنح القومية من أجل الديمقراطية ـ خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»