سقطات المثقف العربي قبل سقوط بغداد

TT

سقطت بغداد، وسقط الكثير من التصورات والرؤى والتحاليل للعديد من مثقفينا ومحللينا، ودخل المثقف العربي في حالة من الدهشة والاستغراب والإحباط، مع دخول الأمريكان عاصمة الرشيد دون مقاومة تذكر... وسبقت دهشة المثقف دهشة جماهيره! ومهما كثرت تفاسير هذه المقاومة شبه المعدومة للجيش العراقي وماشابهها من صفقات مشبوهة وانهيار غير مسبوق أو من عدم إيمان بالقضية أصلا، فإنه وجب الوقوف بعض الشيء عند هذه السقطة الفكرية والتحليلية التي وقع فيها المثقف العربي عموما من جديد.

المطالع لعديد الصحف والمجلات العربية منذ بدأ الحملة على العراق تتراءى له غلبة المواقف العاطفية والمؤازرة الأخوية للتحليلات والتصورات، وغياب الكثير من العقلانية والواقعية في طرحها. كان التوجس من تهمة الوقوف في صف الغزاة، والخوف من أن تُحسب هذه المواقف وتُأوّل على أنها مواقف ضد الشعب العراقي، هاجسا حمله المثقف العربي في ثنايا قلمه، حيث اختلطت عليه عديد الأوراق، فنتج عنه خلط في الرؤية والتحديد وعدم الجرأة في الحسم!

لم ير العديد من مثقفينا حالة الظلم البواح والكبت المضني الذي كان يعيشه الشعب العراقي والذي انفجر الآن في العربدة والنهب والسلب والعصيان وكأن الناس كانوا وحوشا مقبوضا عليها وراء ساترات من الحديد وقع تجويعها وتهميشها واستعبادها. لم يستوعب مثقفونا مدى تشوف هذا الشعب إلى ومضات من الحرية والانعتاق، حتى أنه نسي نسماتها ومعانيها فدخل في فوضى عارمة ما أن رأى أن بعض الباب قد زُحزح وأنّ بصيصا من النور قد بدا...لم يفهم المثقف العربي مدى تشوق هذا الشعب للخروج من وطأة سنوات جمر حمراء أكلت الأخضر واليابس في العراق...لم يفهم كيف يكون للحرية معنى وهي تأتي مستندة على ظهر دبابة ومتأزرة مدفعا رشاشا وقنابل عنقودية!

لهذا كانت جماهير العراق في واد وكان المثقف العربي في واد آخر، غلبته الدهشة وأُحبط في تصوره ولم يفهم كيف غابت المقاومة وانهارت بغداد، وهو الذي كان يمنّي النفس ويملأ الصحف حبرا وورقا بأن عهد الانصياع والهزائم قد ولى وانتهى من بغداد...لم يعقل المثقف العربي أن المواطن العراقي كان همه الأول هو إخراج نفسه وقومه من براثن هذه الدكتاتورية التي جثمت على صدره عقودا من الزمن والتي عجز عن مجابهتها ودفع غاليا مجرد التعبير عن الامتعاض من صولاتها، وفشل في مقاومتها، فمات بعضه، ونُفي بعضه، وسجن بعضه، وصمت خوفا وصبرا الكثير منه...

لقد كان المواطن العراقي عقلانيا في تفكيره، واقعيا في طرحه، بسيطا في "استراتيجيته"، كان شعاره "خلصونا من هذا الكابوس الذي طال ليله وسنخلص أنفسنا من كل كابوس آخر أجنبي يحاول أن يعوضه"...هذه هي عملة المواطن العراقي الذي رأى أنه سيكون له سهلا مقاومة غاز أجنبي على مقاومة ابن البلد الدكتاتور. الطرح الشعبي العراقي يرى أنه مهما طال الزمن، أياما أو شهورا، فإن الأمريكي "المحرّر" سيغادر أرض العراق طوعا أو كرها، وأن الأرض ستعود إلى ملاكها. ولعل في تاريخ العراق المعاصر خير عبرة لهذا التوجه، فقد رحبت الجماهير العراقية بالجنود الإنجليز في بدايات القرن الماضي لتحررها من ربقة الأتراك، لكن ما إن مرت سنوات ثلاث على هذا الاستعمار الجديد حتى انتفض الشعب وانطلقت المقاومة في كل أطراف البلاد وأنهت بعد مدة تواجده على الأرض العراقية. وسواء اعتبرنا أن هذا الطرح بسيط في فهمه، ساذج في إلمامه، قاصر في إدراكه، وأن أبعادا أخرى قد خلت منه وغُيّبت، وأنه أقرب إلى الأمية السياسية والاستراتيجية، فإن المواطن العراقي، البسيط منه والنابه، يراهن على سلامة مشروع تغييره ونجاحه في هذا المعادلة التي يمسك العديد من أوراقها، ويخيّرها على أن يبقى حبيس دكتاتور عاث فسادا في أرضه وعرضه، وهو لا يملك أي ورقة ولا ذرة في حكم مساره ومصيره!

لنتصور لحظة واحدة أن المقاومة صمدت وبقي صدام في الحكم وانهزم التحالف وغادر البلاد، كيف يكون حاضر ومستقبل الشعب العراقي؟ هل ينتهي صدام عن غيه وجبروته ويطلق العنان لديمقراطية البلاد وتحرير العباد؟ أم أنه من الصنف الذي لا تزيده النخوة إلا مزيدا من العتو والتعاظم، وتزداد معاناة هذا الشعب التي لم ندرك هولها إلا الآن، ويزداد إرهاقه واستعباده؟ أسئلة محيرة غابت أو غيبت في الكثير من التحاليل والرؤى.

المفارقة التي عاشها المثقف العربي رهيبة في حسمها، كيف له أن يناهض احتلال العراق، دون مباركة النظام العراقي؟ كيف له أن يرفض الحرب ويساهم في بقاء نظام دكتاتوري؟ ولعل هذا الإشكال هو الذي لعب على أوتاره دعاة الحرب، وهو نقطة ضعف الطرح الرافض لها. كانت إجابة المثقف العربي منقوصة تلفها عديد نقاط الاستفهام التي لم يقدر على إجابتها، كان حال لسانه يحوم بين إجابات فضفاضة وهشة في بعضها، كمثل القبول بأن دكتاتورية صدام خير من احتلال عاصمة الخلافة وسقوط ثروات العراق، وعلى هذا رد حاسم: لا يحس حر الجمرة إلا من يطأها. أو من مثل أن التغيير المتأصل والمستقر لن يكون نابعا إلا من الداخل، وأن الخارج له مصالحه ودوافعه التي لن تخدم مصالح البلد. وعلى هذا رد مقلق ومزعج للفرد العراقي ولغيره: إذا غاب هذا التغيير من الداخل وانعدمت كل صوره المستقبلية، ألا يجوز(جواز شرع ومصالح) الاستعانة بالخارج؟ ألا يجوز قبول بعض المصالح من هذا التغيير القسري والخارجي وترك بعضها إلى هذا الأجنبي إلى حين؟ هذه هي معضلة المثقف العربي، وهو واقع بين مطرقة العاطفة وسندان الواقع المرير. ولعله ارتأى الخلاص الفردي والنجاة الأسهل في اتباع عاطفته وسلوك منطق الشارع وهو مغلوب على أمره!

الحرب لم تنته، وإذا كان سهلا ابتداؤها، فإن الأصعب كيفية إنهائها، و مقولة تشرشل في شأن الحرب العالمية الثانية وهو في أواخرها، أنها ليست النهاية، ولا بداية النهاية ولكنها نهاية البداية... تشبه الليلة بالبارحة، ولعل هذا يصدق في حال العراق، فالنهاية الفعلية بما تعنيه من استتاب الأمن والاستقرار مازال وقع خفافها لم يطأ الأرض العراقية. والشعب العراقي يعقل أن أوراق النهاية يملك جلها، ففي مقدوره أن يوقع البلد في حرب طبقية بين أغنياء البلد الذين استفاد بعضهم من النظام السابق و بين ضعفاءه الذين نسيهم وهمشهم، وفي مقدوره أن يقع في حرب دينية طائفية بين سنته وشيعته، فلا تبق أحدا ولا تذر، وتحيي نعرات وويلات قديمة داخل البلاد وخارجه فتقلب الموازين الإقليمية وتزلزل عديد العروش والسلط. وفي مقدوره أن يشعل حربا قومية بين أكراده وعربه تتجاوز حدود كيانه. وفي كل هذه الحالات لا يبقى للغازي غير ويلات المراقبة أو المساندة لفريق أو الفرار. كما أن في مقدور هذا الشعب أن يرفض بكل أطيافه العقائدية والعرقية الوجود الأجنبي ويلفظ من جاء من بني وطنه على دبابة أجنبية ليحكمه، بعد أن جاءه صدام على ظهر دبابة "وطنية" من قبل!

كل هذه الأوراق المتعددة والخطيرة ما كان الفرد العراقي و لا الشعب العراقي يمسك واحدة منها وهو يعيش كابوس القتل والعسف والنفي والكبت، لهذا فإن ما هو قادم لن يكون إلا خيرا من سابقه حسب هذا المواطن.

لعل المثقف العربي قد أخطأ هذه المرة وعاش الحدث على أهميته بعاطفته أكثر من عقله، غلبه تمنيه لانتصار يوحي لهذه الأمة بنهاية عهد وبداية آخر، كان انتظار المهدي المنتظر أو الطير الأبابيل يُقرأ بين الأسطر في بعض الأحيان، وغابت الواقعية، واندفع المثقف إلى محاكاة جمهوره في غلبة العاطفة و ترقب المعجزات والكرامات... وبالرغم من أنه لا يعجز الله شيء، غير أن دور المثقف قد انحبس مدراره وتوقف وعيه وقلت واقعيته، وعوض التأثير على الجماهير وسحب البساط والغشاوة عن تصورات خاطئة، وقع التأثر وانقلبت القاعدة. ولعل المثقف العربي نفسه تراءى له عدم قبول خطاب الوعي والحقيقة لدى القارئ واستعصى عليه غير مجاراة الموجة العارمة، فتنازل عن المبادرة وخير الخطاب الغالب و"العافية". بل وجدنا من يذكرنا بشجاعة صدام ووقوفه مع "شعبه" ورفضه مغادرة البلاد، وأنه إن كتب له الموت فسيموت وهو حامل مسدسه... لكن الواقع يبدو أنه خالف هذه الأماني، وبقي الشعب وحيدا في ساحة الوغى، تحت القصف أولا وأمام النهب والسلب فيما بعد!

كانت هزيمة العراق واضحة ومنتظرة، ولم تكن أسبابها مادية فحسب، من فوارق كبيرة في العتاد والعدة، وهي سنن لا يجب إخفائها أو التغاضي عليها، غير أن الجانب المعنوي كان مفقودا تماما مهما قيل ووقع تزويره ظلما وبهتانا. لم يلتق شعب العراق مع قيادته أبدا ولم يسع إلى مساندتها، وهو المظلوم والمكبوت والمعذب والمنفي والمبعد عن تحمل مصيره... لم يحس شعب العراق أن القضية تعنيه مثلما تعني النظام القائم، لم يكن يشعر أنه صاحب قضية! وكانت المعركة محسومة قبل أن تبدأ، لأنه لن تكون معركة!

كان المثقف العربي يحمل قضية مفرغة من كل أبعادها، يحمل قضية تخلى عنها أصحابها، لأنهم كانوا أقرب إلى معرفة كل جوانبها وكنه إطارها وتفريعاتها، ويحملون مثالا تاريخيا وراءهم جربوه مع القوى الغازية، فكانوا مصيبين في اجتهادهم، وأخطأ المثقف لأنه لم يمسك كل خيوطها.

خلط المثقف العربي بين موضوعية الكلمة و واقعية التحليل والتصورات، وبين الالتزام العشوائي والساذج أحيانا نحو أمته، كان ظنه أن موضوعية قلمه قد تناطح مواقف جماهيره وتواجهها، وقد نسي أن الثغر الذي وقف دونه يتطلب الجرأة والحسم وحتى المجابهة، لما له من تأثير على صحة توجهات الأمة وسلامة مستقبلها.

هذا الخطاب المنقوص الذي حمله المثقف العربي من خلال الحرب على العراق يضع في الحقيقة إشكالية ضخمة أمام أعيننا عن الدور التغييري لهذا المثقف في بلاده أيام المحن والأزمات وأيام السؤدد والازدهار. هل يجاري ويحاكي ويتبع عاطفة الانتماء، ويعانق تاريخه وحاضره عناق قلوب وتمنيات؟ أم أنه يغلّب العقل ويصادم عاطفته ويغالب جماهيره إذا كانت هذه الأخيرة قد اختلطت عليها السبل وانطفأت شمعات الوعي ودغدغت أنوفها روائح انتصارات غير معقولة، لا يحملها نقل ولا يقبلها عقل، تجاوزت السنن وتعلقت بالكرامات وشواذ الأحوال؟

إن إشكالية تفعيل الحالة، انتصارا كانت أو هزيمة، هي مربط الفرس والنقطة الهامة والأساسية لكل حاضر ومستقبل، والعراق إحدى هذه الحالات. لقد شهدت الأمة الإسلامية انتصارات عديدة في تاريخها لم يقع تفعيلها فذابت ثمار الانتصار وبقيت الأمة على حالها، وتمثل عين جالوت إحدى هذه المحطات الهامة في تاريخ الأمة. فبعد انهيار بغداد، وما أشبه الليلة بالبارحة، عمت الفوضى والقتل والنهب عاصمة الخلفاء، وانتهى عهد العباسيين، وأصبحت الأمة الإسلامية على حرف جرف هار وكادت نهايتها تحصل على أيدي التتار. وتسابق هؤلاء إلى مصر بعد أن دكوا الحواضر الإسلامية الأخرى وآخرها دمشق. لكن معركة جالوت كانت حاسمة، إما نصر وبقاء، وإما هزيمة وفناء..، وكان النصر، غير أنه لم يقع تفعيله حضاريا وبقيت الأمة منتشية بفوزها ولم تعبأ للتحديات التي تنتظرها ولم تتساءل عن الأسباب التي أوصلتها إلى هذا المستنقع. وتواصل نكوص الأمة وتخلف ركبها عن النهضات العلمية والثورات الصناعية.

إن تفعيل الحالة العراقية ما بعد الحرب هي المهمة التي وجب على المثقف العربي إدراكها منذ البداية، علما بأن هذه الحرب عدوانية وتفقد الشرعية الدولية ولعله الشرعية الأخلاقية من منطلق أمريكي وبريطاني. كان لا بد من الانطلاق من فرضية الهزيمة العسكرية حتى يقع تفعيلها حضاريا، لأن كل سننها وأبعادها قائمة، و محاولة البناء عليها دون الإبحار في عنتريات تفقد كل أبجديات الانتصار وأسبابه. كان لا بد وأن الحرب مفروضة ومآلها معروفة أن ينطلق قلم المثقف العربي في ثلاث اتجاهات واعية ومنضبطة:

*التذكير بمعاناة الشعب العراقي من جراء النظام السابق وما جره عليه من ويلات مباشرة عبر تكميم الأفواه ونفي المعارضين وحبس الرافضين وقتل المنافسين والأصدقاء على السواء، ومن ويلات غير مباشرة عبر الزج بهذا الشعب في حروب استهدفت أشقاء وأجوار، فناله القتل والأسر والحصار المفروض عليه ظلما أكثر من عقد من الزمن.

*تدعيم المعارضات الوطنية داخل البلاد وخارجه والتعريف ببرامجها ومشاريعها ورجالها، وإفساح المجال لتصوراتها، ونقدها وتقويمها، في مقابل ما يطرح من معارضات البلاط والمعارضات المستوردة. وتعتبر هذه المهمة منسية تماما عند المثقف العربي، ولعل تفتت المعارضة العراقية واختلاط الغث بالسمين ساهم بلا شك في عزوفه على ارتياد هذه المواطن.

*تأكيد على لا أخلاقية هذه الحرب وافتقار أبعاد التحرير المعلنة، حتى يعلم الغازي أن استبلاه الشعوب لا يمكن تمريرها وأن الاستخفاف بالشرعية الدولية لا يمكن نسيانها. وهو دافع "للمحرر" على أن لا يعتقد أن أيديه حرة في أن يفعل ما يشاء، كيف يشاء، متى يشاء. وهو جانب لم يبخل فيه قلم المثقف العربي من التواجد، غير أنه بقي يتيما ولم يبلور إلى رؤى وتصورات واقعية، نظرا لغياب البعدين الأولين في ما طرحناه سابقا.

إن الموضوعية إرادة وقدرة وعلم، وإن دور المثقف العربي في مثل هذه الحالات العصيبة التي تعيشها الأمة، يتطلب الكثير من الوعي والإدراك لعديد الأبعاد التي يمكن أن يجهلها غيره، وهو مطالب بكل قوة أن لا يفتقد النظرة الواقعية والبصيرة الملمة بعيدا عن عاطفية الموقف ودفعات اللحظة، حتى يقع التفعيل الواعي والرصين والهادف لكل الأحوال، سواء كانت هذه المحطات في حياة الأمة، انتصارا أو هزيمة. وإذا كان رص صفوف الأمة ورفع معنوياتها واجبا يمليه حق الأخوة والنصرة، فإن توعيتها وعدم إسقاطها في العيش على أوهام زائفة وشعوذة مظلة ومحبطة، يعتبر واجبا شرعيا يتجاوز اللحظة العابرة لأنه يهم كل البناء الحضاري لهذه الأمة.

*مدير تحرير مجلة "مرايا" باريس