الصحاف والتصحيف البعثي

TT

اخذ محمد سعيد الصحاف مكانه في تاريخ الفكاهة كشخصية مؤنسة بكذبها ومغالطاتها. اذا كان هبنقة قد اضحك العالم بحمقه واشعب بطمعه فالصحاف بكذبه. غير ان علينا ان ننصفه. فقلما ادرك الناس ان براعته في الكذب نشأت وترعرعت في اطار التربية البعثية. البعثيون العراقيون زعانف على هامش المجتمع، قرويون ومعدمون من سقط المتاع طمحوا الى المجد وطمعوا في العيش الرغيد الذي عاشه أولاد الذوات في المدن الكبرى. كيف يصلون الى ذلك. اكتشفوا ان الحياة الحزبية وسيلة جيدة للارتقاء عن طريق الحزب. وليرتقوا في الحزب لم يتورعوا من استعمال الاغتيالات والعنف والارهاب والكذب. أي شيء بعبارة اخرى يضمن الوصول والارتقاء. تخصص صدام حسين في القتل والارهاب. طارق عزيز وناجي الحديثي تخصصا في الافتراء والادعاء. ومحمد سعيد الصحاف تخصص في الكذب.

لقد قدر لي في السبعينات (ايام خير صدام حسين) ان اتعامل مع البعثيين. اكتشفت فيما بعد ان حزب البعث احفل الاحزاب العربية بالكذب. شعارهم وحده «وحدة، حرية، اشتراكية» يذكرني بما قاله فولتير عن ملوك اسبانيا الذين ادعوا انهم رؤساء الامبراطورية الرومانية المقدسة، فقال انها ليست امبراطورية ولا رومانية ولا مقدسة. أول كذبة بعثية شعارهم هذا. لا جاءوا بالوحدة ولا الحرية ولا الاشتراكية. وكانت الوحدة العربية الركن الاساسي لبرنامجهم. ولكنهم كانوا هم الذين فصلوا سورية عن مصر، ونسفوا مخطط الوحدة العراقية ـ السورية والوحدة العراقية ـ المصرية وعارضوا الاتحاد الهاشمي (العراق والأردن) واتحاد الجنوب العربي واتحاد الامارات العربية. واخيرا توصلوا على يد صدام الى تفسيخ العراق الى ثلاث مناطق.

لحزب البعث العراقي ماكنة خاصة للتزييف والتلفيق والكذب. اذا كان الوردي قد ألف كتابا «وعاظ السلاطين»، فما اجدر بتأليف كتاب عن البعث بعنوان «ملفقي السلاطين»، ليتناول دور المثقفين من نوع طارق عزيز وناجي الحديثي وسعدون حمادي وكل من تولوا تحرير الصحف الرسمية في تلفيق الاعذار وخلق التفسيرات لكل هفوات ولخبطات الرئيس القائد. انها ماكنة الكذب. من تلفيقاتهم الكبرى ان العراق لم يهجم على ايران، وانما ايران هي التي هجمت على العراق، وان صدام لم يستطع سحب الجيش من الكويت لأن أميركا لم تسمح له بالانسحاب لتدمر الجيش العراقي. وبالطبع كلما اقبل صدام على اغتيال او اعدام أحد، بادروا لاختلاق التبرير. ناجي الحديثي لم يتردد في اتهام حتى اخوته (أولياء نعمته) بالخيانة ليبرر تنكيل صدام بهم. هكذا كانت اخلاقية البعثيين العراقيين. توجوا أكاذيبهم اخيرا بادعاء النصر في حرب الكويت وبناء قوس النصر واطلاق لقب المنتصر على الرجل الذي لم يكسب معركة واحدة في حياته سوى انتصاره على النسوان.

لقد نشأت على افتراض ان ما اسمعه صدق حتى يثبت كذبه. لقد تركت العالم العربي في أول شبابي فلم اتعود على افتراض ان ما اسمعه كذب حتى يثبت العكس. اوقعني ذلك في مخالب البعثيين الذين حشوا دماغي بأكاذيب عن صدام وحكومته وصدقتها ورحت اكتب في ضوئها، مما يجعلني اخجل من نفسي الآن عما كتبت.

لم اكتشف كذب ما قالوه الا بعد عدة سنوات. اتصورهم فعلوا مثل ذلك مع سائر الاعلاميين والمسؤولين العرب وغير العرب. الفرق الوحيد هو انهم دفعوا لهؤلاء ولم يدفعوا لي وهو شيء مؤلم ان اكذب واروج أكاذيب بدون ثمن ولوجه الله. ولهذا ادير اذنا صماء لأي بعثي يتكلم في أي موضوع.

المسكين محمد سعيد الصحاف جزء من ماكنة الكذب البعثي. وهو ما يفسر الطبيعية التي كان يسرد بها اكاذيبه. وهذه الطبيعية هي العنصر المهم للممثل الكوميدي البارع التي رفعته الى القمة في عالم الفكاهة. وأنا اجلس الآن انتظارا لأروع الكذبيات الكوميدية عند احالة هذه العصابة الى محكمة الجرائم ضد الانسانية، وقل ضد الحقيقة والصدق.