ليلى المريضة في العراق

TT

الأمم مجموعة افراد حالها كحال مكوناتها البشرية، تولد وتكبر وتمرض واحياناً تموت. لذا فلا يضير الأمم ولا يخجلها ـ كحال الافراد تماماً ـ متى استفحل المرض بالمريض واشتدت خطورته ان تستعين بالطبيب الاجنبي الغريب على العربي او المسلم القريب لانقاذ حياته خاصة من تسبب بعض اقاربه بقصد او بدونه بايذائه الجسدي وعلته النفسية عبر رش الملح على جراحه او تعمد اهماله.. إن الملف الطبي لليلى العراقية يحتوي على حقائق عدة منها:

اولاً: إن لغة الرقم التي لا تكذب تظهر ان النظام السابق ورث «جسدا» ممتلئاً بالعافية ولديه فائض في ميزانيته يفوق 50 مليار دولار، الا انه استطاع ان يورث لمن بعده وضعاً مزريا يتجاوز دينه 387 ملياراً، هو الاعلى في العالم، وخزائن مفرغة من الذهب والفضة اضافة الى حاجة ملحة لمبلغ مماثل لاعمار العراق. وواضح لكل ذي بصيرة بأن امريكا وبريطانيا هما الوحيدتان ـ لا غيرهما ـ الاقدر على الضغط لاسقاط وخفض وجدولة تلك الديون السارسية أو السرطانية، والمساهمة في ايجاد التمويل لاعمار بلاد الرافدين اضافة الى تملكهما للقوة المجحفلة القادرة على منع اي اقتتال داخلي.

ثانياً: واضح برأينا ان احسن ما حصل لصدام هو ابتعاده هذه الايام عن الحكم في العراق، بعد ان احاله عبر حروبه المتواصلة الى دمار في البنان وخراب في البنيان. ولن يضيره وقد خرج بثروة قدرت بأكثر من 21 مليارا ان يمضي باقي عمره في قصور مرفهة لن تقل ترفاً عما تركه في بغداد. ويكفي تقديرا لثروته ما وجد في احد قصوره الصغيرة من مبالغ نقدية «نثرية» تجاوزت عداً ونقداً الـ 700 مليون دولار.

ثالثاً: ولا يمكن تبرئة النظام السابق مادياً ومعنوياً مما حدث في بغداد من سلب ونهب وحرق، فمن الناحية المعنوية علينا ان نلحظ بأن الاداء السيئ لقطاعات قليلة من الشعب العراقي هو نتاج لسياسة «الفرهود» التي ادار بها صدام بلده طوال 35 عاماً، غيب خلالها الشرائع والقوانين، واخل بأساسيات المجتمع المدني، ومنع افشاء التعليم الجيد والثقافة الراقية التي تحض على احترام املاك الغير وممتلكات الدولة. ومن الناحية المادية فإن اتباع صدام هم الجماعة المنظمة «الوحيدة» القادرة على القيام بتلك الاعمال الشنيعة في جميع المدن في وقت واحد، كما انها المستفيد الاول من الصورة السيئة للعراق التي بثت من خلال بعض الفضائيات، اضافة الى حقيقة ان تلك الطغمة هي الوحيدة في خوفها مما قد تكشفه وثائق الوزارات المختلفة من عمليات تزوير وتدليس وسرقة ورشاوى طوال الحقبة الماضية.. وكأي جريمة ابحث فيها عن المستفيد؟.

رابعاً: وقد ضجت آذاننا هذه الايام من الدعاوى الثورية التي تطالب برحيل القوات «الاستعمارية» من العراق. وحسب فهمنا المتواضع للتعريف التقليدي للاستعمار، انه القوة المهيمنة والمسيطرة التي تقتل وتقهر وتقمع الشعب وتسرق ثرواته وتحرم ابناءه من الحياة الكريمة. وضمن ذلك التعريف المنطقي والبسيط للاستعمار نتساءل: هل مر على العراق حكم اشد «استعماراً» له من النظام السابق..؟!

خامساً: ومن سوء حظ العراق ان البعض من جيرانه قد اختص بحروب الوكالة واستخدام اراضي الغير وناسها لتصفية الحسابات مع الاعداء. فالبعض لم يحارب قط اسرائيل على ارضه او بواسطة رجاله، والبعض الآخر استطاع بحرفنة شديدة ان يقض مضاجع الاتراك بدعم اكراد ديار بكر.. والخوف ان تكون عمليات حروب الوكالة الجديدة ضد الامريكان قد بدأت على ارض الرافدين.

سادساً: وأسوأ ما يمكن لقيادة عراق الغد ان تفعله هو محاولة اعادة اختراع العجلة. فإذا ما ارادت الاستماع للبعض والالتزام بنهج الثورية والغوغائية ومحاربة الامبريالية في مشارق الارض ومغاربها وفي بلاد تركب الافيال او تصطاد التماسيح، فلديها من الحكم البائد او بعض الجيران العظة والعبرة. واما اذا اراد العراق الجديد التنمية والعيش الكريم فلديه كذلك من الجيران الاخرين من احال اراضيه الشاسعة الصفراء الى جنات خضراء، ويجب في هذا السياق الا يرضى قادة العراق وشعبه بأي حياة مستقبلية تقل في الرفاه والرخاء والتقدم عما لدى جيرانهم الخليجيين الآخرين.

سابعاً: وقد يكون ضمن خارطة الطريق المختصرة للوصول الى أهداف التنمية والتعمير، التحول الى الملكية الدستورية مع المحاصصة المؤقتة او الدائمة للقوميات والطوائف في مراكز الدولة القيادية، وهو ما سيؤهل العراق للدخول السريع والكامل لمجلس التعاون الخليجي والاستفادة من قدراته وثرواته. والحال كذلك مع ضرورة الحفاظ على علاقات متميزة طويلة الاجل مع الولايات المتحدة للاستفادة من تصدير التقنية والتكنولوجيا اليه وفتح الاسواق الامريكية لمنتجاته كحال المانيا واليابان، وغني عن القول ان الاستقرار السياسي لا التناحر هو الجاذب الاول للاستثمارات والسياحة في العراق.

ثامناً: ونستغرب من استغراب بعض محللينا العسكريين والسياسيين من الانهيار السريع للجيش العراقي والاختفاء الاسرع لقيادته السياسية، ونقول ان العجب لو حدث عكس ذلك، فموازين القوى حسمت الحرب حتى قبل ان تبدأ لدى المحلل المنصف ممن لا يدخل الاهواء في تحليلاته، وهرب القيادة السياسية لم يكن مستغرباً كذلك، بعد ان تحول الهرب لدى العرب، كما ذكرنا في مقال سابق، من نصف المرجلة الى .... كل البطولة..!

تاسعاً: واذا كان صدام غائباً فإن ماله وموارده المالية حاضرة، لذا علينا الا نستغرب لما نراه من تزييف مستمر للحقائق وقلب متعمد للوقائع من قبل ساسة واعلاميين وفنانين، ومن يتدثرون زيفاً برداء الدين والدين منهم براء، ومن ينظر بتأن للداخل العراقي سيجد ان اتباع النظام البائد لا يزالون يشكلون اكبر قوة منظمة فيه، ويحاولون هذه الايام وبدهاء مخابراتي شديد، خلط الاوراق واحتكار التمثيل العلماني القومي والديني السني.

عاشراً: اضافة الى الاختلافات الشديدة بين القوى السياسية في الخارج، والتي منعتها سابقاً من تشكيل حكومة مؤقتة او دستور دائم، بدأت داخل العراق اشكالية جديدة هي رفض المقيمين لقيادة القادمين بعكس ما حدث لاغلب حركات التحرر في العالم. وقد يكون احد اشكالات هذا الطرح ان قوى الداخل وبعكس قوى الخارج لم تعش اجواء الديمقراطية والحرية والقبول بالرأي الآخر، بل اعتاد البعض منها على سياسة اما ان تكون قامعاً او مقموعاً، كما ان أبناء المهجرين ـ المغضوب عليهم ـ هم من سيأتون بالأموال والخبرة اللازمة لبناء الغد.. عراق هذه الايام ليس بحاجة الى سياسي يحكمه، بل إلى ساحر يستطيع بلمسة يد ان يخفي كل تلك المشاكل.

احد عشر: وقد انكشف مثقفو عالمنا العربي باحداث حرب العراق، ونطالب اليوم بأن يعتزل ساسة واعلاميون ومفكرون خدعوا مواطنيهم وارسلوا البعض منهم الى التهلكة. كما نرجو ان يكرمنا لاعبو الوقت الضائع بسكوتهم، ونعني من تفرغوا هذه الايام ـ لا قبلها ـ بالطعن بالديكتاتورية في العراق واكملوها بالتحليلات والتوصيفات الرائعة التي هي اشبه بوجبة ساخنة شهية لم تقدم للمتلقي ابان جوعه القاتل، بل يحاول البعض دسها في زوره بعد شبعه الشديد.. التوقيت في الموقف والمقال ثلاثة ارباع النجاح.

ثاني عشر: وطن ينتظر لوائح الخزي والعار من اسماء المؤتلفة جيوبهم والمستلمين والمتلقين لأموال الشعب العراقي ابان الحقبة السابقة، نخبره بأنه سينتظر طويلاً، حيث ان من استلم واطلع على تلك الوقائع لن يفضحها بل سيستغلها لصالحه، كما سيحاول رجال العهد البائد ان يبتزوا بها نفس الوجوه بدلاً من الدفع لهم. ويبقى ان العارف لا يعرف، واعتقد انه حتى اطفال العرب باتوا يعرفون هؤلاء المضللين للعقل العربي والضاربين بآماله ومصالحه.

يتبقى لمدعي الوصل بليلى العراقية المثخنة بالجراح ومن يريد ان يكون الطبيب المداوي لها في علتها ان «يحلوا عن سماها» فلليلى رب يرعاها وابناء واشقاء وحلفاء لن يتركوها لأصدقاء هم اشد عليها من... الاعداء...!