الحكومة العراقية الأمريكية

TT

يسعد الرأي العام العالمي خلع صدام حسين من سدة السلطة والحكم في بغداد التي تحولت من مركز اشعاع فكري قدم للبشرية عبر العصور المختلفة سبل الرقي بالحياة الى مستوياتها الحضارية المعاصرة، الى معقل ديكتاتوري شرس في العالم طوال ربع القرن الماضي تمت خلاله جرائم السلطة في بغداد ضد الشعب في كل العراق بصورة لم يعرف لها مثيل في احلك عصور الهمجية السحيقة في التاريخ البشري. يكفي ان نذكر بأن صدام حسين كان يمثل بالناس وهم احياء، وهو امر محرم في الشريعة الاسلامية التي تنهى احكامها عن التمثيل بالموتى.

يقابل هذه السعادة التي اعلن عنها قادة الرأي العام العالمي بسقوط نظام الحكم الجائر في العراق، استياؤه الكامل من الغزو الامريكي البريطاني وثالثهما اسرائيل التي اعلن وزير دفاعها شاؤول موفاز اشتراك كتيبة من بلده في الحرب ضد العراق. وقد عبر عن هذا الاستياء المثقفون في العالم، وكان من ابرزهم المخرج الامريكي العالمي مايكل مور الذي اعلن عند تسلمه جائزة الاوسكار في هوليوود "ان الحرب الامريكية في العراق هي عار على كل مواطن امريكي امام العالم"، وتوصلت المناقشات بين المثقفين بمقاهي الحي اللاتيني في باريس الى غياب المنطق عن مكافحة عدوان نظام صدام حسين على الشعب العراقي، بعدوان امريكي بريطاني اسرائيلي على الشعب العراقي، فالضحية في كلتا الحالتين الشعب العراقي اما بالعدوان عليه من الداخل، او بالعدوان عليه من الخارج، واينما ارسلت نظرك في ارجاء الدنيا لوجدت موقفا شعبيا معارضا بقوة للعدوان الثلاثي الامريكي البريطاني الاسرائيلي على العراق.

فقهاء القانون الدولي العام بالجامعات الامريكية الثائرة على الادارة الامريكية يؤكدون أن الاخذ بمبدأ سيادة القانون يحرم مجابهة العدوان بالعدوان، ويصفون ذلك بالموبقات السياسية التي يزيد من آثام مرتكبيها خروجهم على الارادة الدولية التي تطالب باستمرار المواجهة بالعمل الدبلوماسي مع العراق الذي ازعن للتفتيش الدولي عن اسلحة الدمار الشامل بشهادة رئيس جهاز المفتشين هانس بليكس، ومدير عام وكالة الطاقة الذرية محمد البرادعي امام مجلس الامن، وجاء في الشهادتين خلو العراق من اسلحة الدمار الشامل، وطالبا بمد مدة التفتيش عنها لثلاثة اشهر اخرى للتأكد التام من خلو العراق من هذه الاسلحة ذات الدمار الشامل، فقرر مجلس الامن الاستمرار في العمل الدبلوماسي من خلال التفتيش الدولي تحت مظلة قراره 1441، وشذت عن هذا الموقف الدولي امريكا، وجرّت معها بريطانيا، وانضمت اليهما اسرائيل، وارسلوا جندهم الى حرب في العراق بحجة ان النظام القائم في بغداد نجح في اخفاء اسلحة الدمار الشامل عن اعين المفتشين الدوليين.

بعد اجتياح العراق بالقوات المتحالفة، وخلع صدام حسين من السلطة والاطاحة بالنظام القائم في بغداد، ساد الصمت عن اسلحة الدمار الشامل، وهو دليل على عدم وجودها بالعراق، وتعمد البيت الابيض اخفاء هذه الحقيقة حتى لا يفضح نفسه امام شريحة من الشعب الامريكي تعاطفت مع الحرب لتخليص العالم من خطورة اسلحة الدمار الشامل، لأن عدم العثور عليها يسقط كل مبررات الحرب التي استندت اليها امريكا ويزيد من عدم شرعية القتال في العراق بتوصله الى نفس النتيجة التي تحدث عنها هانس بليكس، ومحمد البرادعي امام مجلس الامن، بتلكفة عالية تتمثل في قتل الابرياء من المواطنين العراقيين، وارسال ابناء الوطن الامريكي والبريطاني والاسرائيلي الى الموت بسوقهم الى حرب تم الوصول الى اهدافها قبل بدء القتال، وصعد ذلك اصواتا من داخل واشنطون ولندن وتل ابيب تطالب بمعاقبة دعاة الحرب على جريمة الحرب في العراق.

تعاطف مع هذه الاصوات المطالبة بانزال العقاب على مجرمي الحرب في العراق، قضاة المحكمة الجنائية الدولية تحت مظلة محكمة العدل الدولية في لاهاي، الذين اعلنوا أن القوات العسكرية الغازية للعراق ارتكبت العديد من جرائم الحرب ضد الشعب العراقي الذي يحق له التقدم بشكوى الى المحكمة الجنائية الدولية بوثائق تثبت وقوع هذه الجرائم ضده، غير ان هؤلاء القضاة نسوا او تناسوا حقيقة الوضع الدولي الراهن الذي يجعل امريكا فوق القانون ولا سبيل للخروج من هذا الواقع الدولي الا بالعودة الى ثنائية القوة العالمية لفرض التوازن الدولي الذي يخضع امريكا لاحكام القانون الدولي العام. وحتى يتحقق ذلك، وهو بعيد المنال، ستواصل واشنطون سعيها في الارض فسادا تضرب العراق، وتهدد سوريا "وتبين العين الحمرا" لايران وتنذر من تشاء من الدول في مشارق الارض ومغاربها لقناعتها بالمثل الانجليزي الذي تقول كلماته "الحق مع القوة".

غير ان هذه القوة لم تمنع امريكا من شغل العالم في البحث عن صدام حسين "فص ملح وذاب" قبل سقوط بغداد بيوم واحد، ولجأ البيت الابيض الى "اللوتاري السياسي" بتقديم جائزة مالية كبرى لمن يدل على مكانه، في الوقت الذي تشير اصابع الاتهام الى واشنطون بابرام صفقة مع موسكو لاخرج صدام حسين من العراق الى روسيا، فإن صدقت هذه التهمة لجاءت فضيحة امريكا بجلاجل تقتل شعبا بدون ذنب وتهرب جلاده لتمنع معاقبته دون ان يستطيع احد ان يقول للغولة "عينك حمرا".

ليس مهما البحث عن صدام حسين حيا او ميتا، فهذا شأن دولي لم يعد للعراق اهتمام به من بعد ازاحته عن السلطة والحكم في بغداد، وانما المهم بالنسبة للشعب العراقي شكل الحكم الذي سيتولى السلطة في بغداد، فإن جاء اجنبيا بالزي العسكري او المدني حكم على الشعب العراقي بالموت مرتين مرة بقتله بغزو العراق، ومرة بقتله بحكم العراق. واختار البيت الابيض الحاكم المدني للعراق من بين عسكره المتقاعدين الجنرال جاي جارنر الذي تدور حوله الكثير من الشبهات بسبب صداقته الحميمة مع رئيس الوزارة الاسرائيلية اريل شارون الذي اعلن عن قيامه بزيارة بغداد بعد ان يمارس الجنرال جاي جارنر سلطات الحكم فيها لتبدأ اسرائيل عهدا جديدا مع العراق بعد تحولها على يد حاكمها الامريكي من دولة عدوة لاسرائيل الى دولة صديقة لها. لم يأت هذا القول من فراغ وانما جاء مستندا الى توقيع الجنرال جاي جارنر في عام 1997 على وثيقة اسرائيلية تقر المسلك العسكري الشرس في قمع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، ومثلت هذه الوثيقة البيان الذي اصدره المعهد اليهودي لشؤون الامن القومي وكرم الجنرال جاي جارنر على توقيعه عليها في داخل البرلمان الاسرائيلي (الكنيست) الذي انعم عليه بأعلى وسام في اسرائيل مقابل تعاطفه مع الصهيونية.

انكار الجنرال جاي جارنر صهيونيته مع بداية حكمه للعراق "يكاد المريب ان يقول خذوني" لا يلغي على الاطلاق ارتباطه مع الصهيونية والعمل على تواصلها مع العراق، يؤكد ذلك ما جاء بصحيفة "ذي يونج فيلت" الالمانية بأن اول قرار "الحكومة العراقية الامريكية" الاعتراف باسرائيل وبدء التعامل الطبيعي معها في مختلف المجالات.. كان الله في عون الشعب العراقي الذي ستكون معاناته مع الحكم الامريكي اكبر بكثير من معاناته مع الحرب الامريكية ضد بلاده.