حكم المتسولين على الأثرياء!

TT

رغم مشاركتي هوس الكثيرين في الانجذاب نحو المطلق، والتعلق بالحقيقة وبالمثال، فإني لا أرى قيمة كبرى لهذه المشاركة، ما لم يوازها انجذاب مماثل للواقع، وتعلق معادل للحالة.

ويعود الجهد الرابط بين الحقيقة والواقع إلى هدف، يعتبر من أكبر أهداف عمليات التفكير والبناء والتبصر، إذ لا معنى لحقيقة تفتقد إلى أساس واقعي، ولا منفعة من واقع يفتقر إلى الآفاق وإلى سطوة المثال، والقيم الثابتة رغم تحولات الواقع الكثيرة.

لذلك فإني لا أعيش قرفا إزاء المواقف التي تدعي زعامة الواقعية السياسية، بل أعتقد أنها إذا ما صدقت في زعمها، فهي مواقف تستطيع إعمال النور، في زاوية معينة من مستقبلنا ومن قراراتنا ومن مواضيع كثيرة متراكمة أمامنا.

أما إذا تلازم الموقف الواقعي السياسي، مع الكلام المنمق والسجع المتواتر وإقحام الفكر المثالي بالعنف، فإن الطامة تكون كبرى، وينتهي أصحاب هذا الموقف إلى مفترق لا يؤدي لا إلى الواقعية ولا إلى المثالية.

وما يفسر فشل الخطاب الواقعي في عالمنا العربي هو أنه خطاب لم يخلق قيمه الخاصة به، ولم يبتكر لغة تدافع عنه، فإذا به خطاب يستعير قيمه من الخطاب المثالي ويقدمها في سياق يشوه الخطاب الواقعي من جهة، ويسيء توظيف القيم المستعارة من جهة أخرى.

وكي لا يبقى الكلام غائما وهائما على معانيه، يمكننا الاعتماد على أصحاب النظرة الواقعية في مسألة استهداف العراق وضربه، خاصة أن هذه النظرة رغم إعلانها بصوت عال يصم الآذان بأنها واقعية وعقلانية، إلا أنها أكثر وجهات النظر تغييبا للواقعية، واستحضارا للمثالية المزيفة!

وتقول النظرة الواقعية، إن ما حصل للعراق هو تحرير، وإنه كان لا بد من ذلك لتحقيق الديمقراطية ولبعث الخوف في بقية أفئدة الأنظمة العربية الأخرى، حتى تطلق يديها في مجالات الحريات وحقوق الإنسان وتوصي العائلات الحاكمة أفرادها بالانضباط المادي، والتقليل من البذخ الفاحش، ورفع الحواجز الخانقة عن وسائل الاتصال والإعلام.

وتضيف نفس النظرة أن الشعوب العربية عاجزة عن تغيير أنظمتها، وأمريكا كسيدة للعالم الحر، قادرة على مساعدتنا وبعد ذلك سنقيم الديمقراطية ونتمتع بثرواتنا، ونبني دولا وطنية ذات سيادة ومؤسسات ونقيم انتخابات حرة.

ولأن هذه النظرة حالمة جدا، ومثالية أكثر من اللزوم فإن ذكاءها تراجع، وحدة صوتها أخفتها الالتذاذ بالتصورات المستحيلة من ذلك أن حديثها عن الحرب على العراق بدا مصبوغا بنبرة الفرح، وبحالة من استشعر قرب الفرج.

وبصرف النظر عما آلت إليه الأمور، والفاجعة التي حصلت والتي يصر الكثيرون على اعتبارها مفاجأة دون وصفها بالسارة، احتراما لنا، فإن النظرة الواقعية يصح عليها القول بأنها نظرة فاقدة للوعي، وأظن أن الموقف الذي يدعي الواقعية لا بد من أن يكون واعيا جدا وأن نتلمس حقيقة، مادية الواقع وحسيّة لغته المعبرة عن الواقع والتي تبني حججها استنادا إلى أرقام وإحصائيات وإلى سيناريوهات لا يساورنا الشك في صحة بلورتها.

فإذا كان المثاليون يقرأون، حسب التهم الموجهة إليهم دائما، الشعر والروايات والفلسفة وبقية العلوم الإنسانية، فإن ما يجدر الإقبال على قراءته، بالنسبة إلى الواقعيين هو كل ما يمت بصلة إلى العلوم التجريبية والعلوم الصحيحة، خاصة أنهم يدافعون عن الجهة التي بنت مجدها بالاعلام والرياضيات وبالفيزياء قبل أي أدب آخر.

إن نظرة واقعية غير فاقدة للوعي، لا يمكن أن تقتنع بأن العراق أو العالم العربي يمكن أن يستفيد ولو بذرة منفعة من أمريكا، لذلك فإن قوة ما حصل للعراق تكمن في أنها كارثة لا تحتمل تعدد المواقف، بقدر ما تستوجب وحدة الموقف، وذلك لأن الحرب التي أعلنت، لا علاقة لها بهدف إسقاط النظام العراقي، بل ان النظام الذي تسارعت وسائل الإعلام إلى وصفه بالمخلوع لا يشكل حتى هدفا ثانويا، في حين أنه يمثل هاجس عدة عراقيين وعرب وفارسيين.

وفي الوقت الذي تجمد فيه تفكير الكثيرين واقتصر هاجسهم على أمنية إسقاط النظام العراقي السابق، فإن المخطط الأمريكي، تحرك بنشاط وبهمة نحو أهدافه الحقيقية، التي ولحسن حظه شرع في إصابتها ومن الصعب أن يتراجع عن تحقيق ما تبقى، وتلك الأهداف هي التي انشغل عنها أصحاب النظرة الواقعية والحالمون بالاستيراد المريح والمجاني للديمقراطية. وتعتبر الأهداف الحقيقية لضرب العراق، أصل الداء، وسبب الحزن. والمضحك أننا أدرنا عقولنا عن الحقائق والسيناريوهات المرسومة لنتراشق التهم الخاوية والتي تدل على وعي منقوص، وعلى هبوط درجة الغيرة على الوطن العربي، دون الحديث طبعا عن جنون الوجدان العربي الذي أصبح يرقص في لحظة المأساة، ويقهقه ساعة الاحتلال.

فهل يمكن لمن يعلم بأن أمريكا رفعت شعار من أجل قرن أمريكي أن يصدق تجند أمريكا لحمل رسالة الديمقراطية إلى الوطن العربي، والحال أن تحليل عاجلا لمضمون الشعار يفضح نزعة الهيمنة ويكشف عن الأنياب المتقدمة للإمبريالية التي لم تتوان عن تهديد فرنسا وروسيا والضغط عليهما، رغم أنهما تنتميان إلى قائمة الدول العظمى في العالم.

ثم كيف تصدق بأن أمريكا خاضت حربا مكلفة لتحرير الشعب العراقي، وبعدها يعود المارينز والجنرالات إلى ولاياتهم المتحدة، حاملين للإدارة الأمريكية عبارات الشكر الجزيل والامتنان.

إن حريتنا بالنسبة إلى الفريق العامل في البيت الأبيض، وإلى توني بلير رئيس وزراء حكومة بريطانيا، لا تساوي شيئا يذكر، وحتى لو حصلت المعجزة وارتفع ثمننا في أسواقهم فلسا واحدا، فإني أشك في أن حريتنا هي الدافع وراء تحمل جورج بوش حرق أعصابه أو تجاوز توني بلير لوابل الاستفزازات التي صبغت وجهه بشتى ألوان قوس قزح، ولو كنت - لا سمح الله ـ مكانهما لكرهت الحرية ألف مرة وتركت الشعوب العربية تطلق سراحها بأيديها... إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.

لقد تعرض أصحاب النظرة الواقعية إلى عملية خداع مجانية، كان بالإمكان تجاوزها لو بحثوا عن اللغة التي تليق بخطابهم الواقعي، إذ المشكلة لديهم أنهم وقعوا في ولع الشعر، وبخاصة غرض الهجاء ولم يولوا اي إعتبار لأرقام تلدغ من ينظر اليها وتجعله يغير نظرته في 60 ثانية.

لقد مررنا من حالة المضايقة، إلى حالة الاغتصاب. والحالتان مختلفتان كثيرا.

فالمضايقة التي تقترفها الأنظمة الديكتاتورية، تبقي لدينا شيئا منا، ولا تأتي على كليتنا، بينما الاغتصاب هو سلب يفرغ المتعرض إليه من كل علاماته، ليصنع منه تابعا مقبوضا عليه نفسيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا.

أظن أن الموقف الواقعي، الذي أطنب في دق طبول الحرب على العراق، قفز على معطيات ستداهمه قريبا، في اللحظة التي لا ينفع فيها تمزيق الطبول. ولن تكون هذه اللحظة بعيدة إذ الحاجة الأكيدة والمستعجلة والحيوية إلى نفط العراق ستحول الجميع إلى ثكالى يلطمن ويصحن... ولا من مغيث.

إن الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تدخر جهدا لإظهار قوتها وعظمتها وترسانتها العسكرية، قد أعمت بصيرتنا عن حقيقة فقرها، وعن هويتها كمتسولة شاء لها الزمن أن تتحكم في الأثرياء، وأن تطارد وتحتل أغنياء النفط والماء. طبعا يصعب على عشاق أمريكا قبول وصفها بالتسول، وبأنها تحتاجنا أكثر مما نحتاجها وأنها رغم قوتها الحقيقية، فإنها تعاني من تبعية مفرطة للعالم العربي لا سيما أن 70 % من المخزون العالمي للنفط موزع بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل أن معدل تبعية الولايات المتحدة الأمريكية في مجال النفط ستمر من 50 إلى % 70.

وأمام هذه المعطيات التي تتناقض ورغبة الهيمنة على العالم وأمركته، لجأت أمريكا إلى ضرب العراق، والدوس بالحذاء على الشرعية الدولية، إذ المسألة، تتعلق بالأمن القومي الأمريكي.

وبما أن الهيمنة ستتغذى خلال ربع القرن القادم من المخزون النفطي الموجود في الخليج، والذي يمثل أداة الهيمنة والمقص لتقليم أظافر روسيا والصين وأوروبا، فإن الحرب ضرورة لا ينفع معها السقوط في أحابيل الأخلاق والقانون والحضارة.

إن التسول بالقوة وبالدبابات وبالصواريخ العنقودية وبالأباتشي، سيخرج الأثرياء من ديارهم، وتنقلب المعادلة وسيتسولون براميل نفط على عدد أصابع اليد خاصة أن الاحتلال سيمتد إلى أجل غير مسمى، حتى وإن أتخذ له شكل حكومة موالية من القدمين إلى الرأس، دون أن ننسى العواصف التي ستطلقها الشركات العملاقة والدموية، التي ستتولى إدارة النفط العراقي أولا ثم ستستعين بشعار الهيمنة وتفرض قانونها وسعر براميلها، والذي سيحتج من العرب، فإن أمامه بحار الخليج الكثيرة، وله أن يختار بين الشرب أو الغرق.

وذاك حكم المتسولين على الأثرياء الذين أكرموا اللئيم وصفقوا له، وصدقوا أنه مبشر بالديمقراطية، تلك التي يسحقها سحقا عندما تدغدغ انفه عطور آبار النفط. إنه العهد الذهبي للهيمنة المعسكرة، ولن يخلصنا منها إلا ولادة عالم عبقري يكتشف طاقة بديلة عن النفط فحينها فقط قد ننعم بالاستقلال. إننا بحق أمة تقيم الأفراح لمآسيها ولا تجيد سوى خلط الأوراق والإقامة في توابيت الأحقاد والاكتفاء بحدود اللحظة الضيقة، معتقدين أن المسكنات يمكن أن تجنبنا حتمية إجراء عمليات استئصال. إنها أنانية الساسة ومحدودية المثقفين الذين لا يكترثون إلا بإطعام نرجسيتهم المريضة، تاركين مستقبلا أسود لشعوب احترفت الألم.

[email protected]