سن الرشد

TT

فيلم «الريشات الأربع» يتحدث عن مفاهيم انسانية مختلفة أفرزتها لحظة هزيمة الجيش البريطاني المدعوم بقوات مصرية في حملته على السودان في نهاية القرن التاسع عشر أمام قوات المهدي. أتتني رسالة من الصديق مدكور ثابت رئيس الرقابة في مصر بالاشتراك في مجلس شورى النقاد لتقرير مصير الفيلم للعرض من عدمه، حيث أن أحد الرقباء يعتقد «وفقاً لتقريره» في عدم صلاحية عرض الفيلم أنه يتحدث عن الحملة البريطانية على السودان في الوقت الذي يشارك فيه الجيش البريطاني في غزو دولة عربية هي العراق.

حضرت العرض ولم أجد فيه مايجيز مجرد التفكير في عدم عرضه، وان كنت توقفت طويلاً أمام المناقشة التالية لعرض الفيلم لبعض نقاد وكتاب السينما، فقد فوجئت ببعض المواقف التي بدت وكأنها لا ترضى بموقف الوصاية على قول الناس بديلاً، وكأن المتلقين يعانون تأخراً عقلياً ، أو عدم قدرة على فهم المسائل الكبيرة إلا بعد اقرار الأوصياء على عقولهم بذلك.

وخرج أحد الزملاء منتقداً الاتجاه الداعي لعدم فرض أي شكل من أشكال الوصاية على عقول الناس ـ وكنت ضمن هذا الاتجاه ـ فبرر الناقد السينمائي موقفه: «كنت في ما سبق متفقاً مع ذلك الطرح ـ يقصد عدم فرض وصاية على كل الناس ـ ولكن بعد غزو العراق وفرض الأميركان الرقابة على الأخبار فأنا مع الرقابة».

الغريب في هذا المنطق أنه يلوي الأمور والأحداث ليبرر موقفاً معادياً لحق الانسان في أن يقرر بنفسه، ويكرس وضعاً يمارس فيه هو ومن يمثلهم دور الوصاية على عقول الناس.

الجانب الايجابي هو أن مثل هذه الأصوات لم تمثل الأغلبية، فقد تم اقرار عرض الفيلم من دون تدخل وفوراً بما يشبه الاجماع. ولكن مثل هذه الأصوات تشكل بالفعل خطراً على المستقبل، ذلك المستقبل الذي لن يكون مشرقاً إلا بالمزيد من الاقتناع بأهمية حرية التفكير والفكر، وبرفض مفهوم الوصاية على عقول الشعوب، والاقتناع بأن هذه الشعوب قد وصلت الآن الى سن الرشد.

في ذات الاطار ، فإن المحاولات التي بدأت تظهر أخيراً في توسيع دور الأزهر الرقابي علي الأعمال الأدبية والابداعية تصب في ذات الاتجاه، اتجاه تكريس سلطة الوصاية على عقول الناس، دور الأزهر الآن في مثل هذه الأمور ينبغي أن يتوقف عند دور الاستشارة، وليس دور الرقيب صاحب القرار، سواء في ما يتعلق بالأعمال الأدبية أو الفنية. مانطالب به هو تخفيف مانعانيه من قيود سياسية ولسنا في حاجة الى زيادة القيود تحت أي مسمى.

اعتاد الأزهر خلال الفترة الماضية أن يمارس دوراً استشارياً ولكن وفقاً لما بدأ يظهر من خلال الممارسة في الأعوام الأخيرة فان هذا الدور يحاول أن يتجاوز هذا الدور الاستشاري الى دور رقابي عملي يملك أن يمنع أو يجيز، ووصل الأمر الى حدود التدخل فيمن يحق له الظهور على شاشة التليفزيون ليمارس الدعوة أو الفتوى.

ومع تحفظي الشديد على من يطلق عليهم «الدعاة الجدد»، فانني أجد أن ازدياد المساحة التي يمارس فيها الأزهر دوره مؤشر غير ايجابي ينذر بازدياد مساحة الوصاية على حساب مساحة حرية الفكر.. نرحب بكل الأدوار في الحدود التي تدفع هذا المجتمع للأمام.

latifmenawyyahoocom