الكيان العراقي المميّز: ظاهرة إيديولوجية أم مشروع سياسي؟

TT

للوهلة الأولى يبدو غريباً أن يكون النظام العراقي البائد من أكثر الأنظمة صخباً في دنيا العرب بالدعوة إلى الإيديولوجية العروبية الشاملة في وقت تتناقض فيه هذه الدعوة بصورة واضحة مع وجود موزاييك شائك من الأقليات غير العربية على أرض العراق.

واليوم ثمة إمكانية مصالحة، مشروع مصالحة، باب على مصالحة جغرافية كيانية عراقية، ولكنها ليست، حتى اللحظة على الأقل، مصالحة حقيقية. غير أن الأمر الأكثر ضرراً على العراقيين ليس تعثر هذه المصالحة أو إطالة أمدها، بل تلك المحاولات الدؤوبة الجارية لإيجاد نوع من الربط للمسار العراقي مع «أشقائه» العرب الآخرين تحت لافتة «تنسيق المواقف العربية» للحؤول دون النظر في حل للقضية العراقية كقضية مستقلة بذاتها عن إطارها العربي.

ولا يخفى على أحد خطورة هذا الربط الذي ذاق العراقيون أكثر من غيرهم طعم مرارته، وجرّ عليهم ويلات توازي في حدتها، إن لم تزد، ما أفرزته إيديولوجية النظام البائد إزاءهم. وإذا ما تحقق أي نوع من الربط، فلن يكون سوى عودة سريعة إلى عراق 1968الذي عايش العراقيون جميعاً مصائبه والآلام.

في هذا الشأن، يبدو حنين بعض العراقيين إلى المرحلة الملكية الذي تسمع أصداؤه خافتة هنا وصاخبة هناك له ما يبرره على أيّ حال. فقد كانت فكرة الإطار الجغرافي للكيان العراقي المميّز واضح لدى مؤسسه الملك فيصل الأول في عشرينات القرن الماضي. ففي خطاب تتويجه ملكاً على العراق، تحدّث فيصل عن البلد قيد التأسيس باعتباره «شعب» و«وطن» و«أمة». وبعد حصول العراق على استقلاله حيّا الملك «اعتراف الأمم بأننا أمة حرة ذات سيادة تامة». وربما من النادر أن تقع عين القارئ الحصيف في الأدبيات السياسية لتلك الحقبة على مصطلحات تشير إلى غير ذلك من الولاءات ما فوق العراقية. ففي خطابات الملك وفي البيانات الوزارية التي وثقها عبد الرزاق الحسني في كتابه الموسوعي «تاريخ الوزارات العراقية» تخلو جميعاً من أيّ إشارات يستشف منها انتماء غير الانتماء إلى العراق. ويصح هذا الأمر بدرجة كبيرة أيضاً على برامج الأحزاب المختلفة التي انبثقت في تلك الحقبة، من حزب التقدم مروراً بالحزب الوطني وانتهاء بحزب العهد.

وما يجدر التأكيد عليه، هنا، أنه خلال المرحلة الملكية (1921 ـ 1958) كان تعبير «العروبة» الذي ما فتئ يتردد في الصحافة العراقية، لن يدفع المرء بالضرورة لاستنتاج متسرع مفاده السعي إلى اندماج الكيان العراقي الحديث في الجامع العروبي الشامل، بل كان يشير إلى ما يمكن اعتباره «هوية» كمعطى ثقافي ـ لغوي، أكثر مما هو معطى سياسي أو ايديولوجي.

ولمّا كان الأمر كذلك، فإن نوايا دعاة ربط المسار العراقي بقضايا المنطقة «المصيرية» الأخرى يعني عملياً أن العراقيين سيبقون طيلة فترة البحث عن حلول لها في «قاعة الانتظار»، ويعني هذا الربط، كذلك، عدم استطاعة العراقيين قطف ثمار المناخ الدولي الإيجابي الحالي الذي دقّ المسمار الأخير في نعش الولاءات والروابط والإيديولوجية الشمولية التي جسّدها نظام صدام حسين، وأفرز هويات وطنية تناقش كل منها بصفتها قائمة بذاتها ومستقلة عمّا عداها. ويعني هذا الربط، أخيراً، استمرار بعض الأنظمة العربية في السلطة، واسترداد بعض «شرعيتها» في الإبقاء على جو المواجهة مع «المشروع الأميركي للهيمنة على المنطقة».

وفي واقع الحال، فإن من حق العراقيين التساؤل عن صدق النوايا المخبأة وراء دعوات الربط، خصوصاً في ضوء الحساسيات المعهودة في المناخ العربي السائد، الذي قد يشكل لطرف عربي ما «مرجعية» في هذا الوضع أو ذاك لدى تعاطيه مع الملف العراقي، مثلما كان الحال مع الملف الفلسطيني.

ولعل إعادة الاعتبار إلى مصطلح تمّ استعماله على نطاق واسع كأداة للتدخل العربي بالشأن العراقي، هي من أخطر ما يحدث اليوم. ذلك أن مرحلتنا الراهنة تتميز بانحسار شامل وعميق للفكر والممارسة المنبعثين من اعتبار الانتماء العروبي معياراً أساسياً ل «التضامن العربي»، ولا يتوازى وعي هذا الانحسار مع مداه، بل مع عمق درجته. وإن كان من مجال لتمييز مرحلتنا هذه، فهي ، بين أمور أخرى، أعطت مفهوماً جديداً ل «العروبة» قوامه الواقعية والاعتدال في صنع القرار السياسي وفي التكيف مع الأمر الواقع. ففي ظل الوجود العسكري الأميركي المباشر على الأرض العراقية وما قد ينطوي عليه من صوغ جديد لمفهوم «عروبة» العراق، سوف يفتح الطريق لرؤى تتجاوز الإيديولوجية الفضفاضة التي ما فتأ معشر العروبيين التبشير بها على مدى نصف قرن من الزمان.

وإذا كانت معطيات الساحة العراقية قد أسفرت، حتى اللحظة، عن عدد من الديناميات التي قد تغير وجه المنطقة، فإن الطرف العراقي الذي اندرج ردحاً من الزمن ضمن المنطق الاستراتيجي للتيار العروبي، بات اليوم يتخذ مساراً سياسياً ممركزاً على ذاته، بعد أن أرهق الميراث الثقيل للعروبة جسده الذي تلاعبت به ثلاث سياسات مدمرة: الأولى، سياسة استخدمت الإيديولوجية العروبية كمظلة لتبرير إقامة نظام حكم استبدادي شمولي يتقصى العراقيون في حاضر الأيام بعضاً من يومياته الدامية; والثانية، اعتبرت الحرب على إيران «حماية للبوابة الشرقية للوطن العربي» وغزو دولة الكويت «الطريق نحو تحرير فلسطين»; والأخيرة، اعتبرت حصار شعب العراق ومعاناته «كسور الحساب» لاستعمالها في تدوير حسابات الآخرين في المنطقة.

هكذا، فما أن بدأت «الرابطة» الإيديولوجية تفقد سحنتها، حتى بدأ بعض العراقيين، في التخلي عن الاعتماد على «عروبة» انطفأت من دون أن يترتب عليها أي مردود عملي، وتولوا بأنفسهم صوغ الخط البديل الذي أعلن دون تهيب أو حرج عن انفكاك العراق من عروبة مستلبة لم تقو على وقف دورة عنف النظام في بغداد، ولا في مواجهة استبداده المطلق.

وقد يكون لهذا الخط الجديد علاقة بأمور يمكن لمسها في واشنطن هذه الأيام، في سياق مفاوضات عربية منفردة لتلمس النوايا الأميركية لمرحلة ما بعد صدام. ففي زمن أصبحت فيه الحلول مرتبطة بهذا النظام العربي أو ذاك، برزت المحادثات مع واشنطن ثنائية في تركيبتها كما في أسلوب معالجتها.

فمع هذه النقلة النوعية، تحول الشأن العراقي جدلاً سياسياً بين أطرافه الداخلية، وعاد إلى إطاره الجغرافي ـ الكياني الذي ألفه عراقيو العشرينات من القرن الماضي. لكن انقشاع وهم «الربط»، قد ينتظر فترة أطول. بكلام آخر، إن الانفصال بين العراقيين وبقية العرب، ليس مجرد انفصال إيديولوجي، إنه انفصال نفسي من التعايش المشترك مع أقلياته غير العربية إلى الكيان ويجب أن يظل كذلك.

* أكاديمي من العراق مقيم في فيينا