زمن طار.. وآخر هبط

TT

مفارقة فيها الكثير من الغرابة، وهي ان زمن صدام حسين وزمن طائرة «الكونكورد» بدآ معاً وانتهيا معاً. وفي الحالتين ما يؤكد أن الاستعجال مُخاطرة وأن التأني طمأنينة، أو ان الحقيقة هي في القول المأثور: في التأني السلامة وفي العجلة الندامة.

في الوقت الذي كان صدام حسين ابن الخامسة والثلاثين من العمر يحقق حلم حياته ويبدأ في العام 1968 وباسم «حزب البعث» تذوُّق حلاوة السُلطة من خلال الموقع الثاني الى جانب شاغل الموقع الاول احمد حسن البكر، كانت بريطانيا وفرنسا المتعاونتان زمنذاك على انتاج «طائرة القرن العشرين» بمعنى أنها طائرة الركاب الأهم في العالم، متفوقتين بذلك على صناعة الطائرات الاميركية، شارفتا على انزال الطائرة الاولى الى سوق السفر. وعندما بدأت «الكونكورد» الاولى رحلتها الاولى عام 1976 عبْر المحيط متجاوزة سرعتها سرعة الصوت كان صدام حسين حقق خطوة نوعية على طريق الاستئثار بالسلطة متمثلة خطوته هذه بأنه بات في ضوء ترتيبات أمنية وحزبية الرجل القوي داخل النظام، او اذا جاز التحديد بات الرجل الثاني منصباً الرجل الأول قوة وبات ثانياً من كان الأول ثم ثانوياً. وكانت بداية الاختبار للنقلة النوعية التي نشير اليها حدثت قبل انطلاق المرحلة الأولى لـ«ام الطائرات» ببضعة أسابيع وتمثلت في «اتفاق شط العرب» الذي أبرمه مع شاه ايران في الجزائر وبرعاية الرئيس هواري بومدين وهو الاتفاق الذي عاد وألغاه عام 1980 بعدما كان النظام الشاهاني سقط وحل محله النظام الثوري بزعامة آية الله الخميني مدشناً بهذا الالغاء الحرب مع ايران التي انتهت عملياً الى طرفين مهزومين ومنهكي القوى.

كانت اجتهادات صدام حسين ومغامراته بدءاً من المواجهة مع ايران وصولاً الى الاجتياح للكويت تتم بسرعة هي بمثل سرعة «الكونكورد» التي تتجاوز سرعة الصوت. وكان اندفاعه في اتجاه التسلح بما في ذلك المحاولة النووية التي ضربتها اسرائيل ثم محاولة السلاح الكيميائي والبيولوجي بديلاً للسلاح النووي المتعثر الحصول عليه بمثل اختراق جدار الصوت. وفي كل محطات الاندفاع التسلُّحي كانت التكلفة باهظة وكانت بمثل تكلفة النقل «الكونكوردي» التي هي تراكُم متواصل للخسارة. وبدلاً من ان تكون كارثة حرب صدام حسين مع ايران وما تسببت به لنظامه وللعراق وللمنطقة مناسبة للتأمل والبدء باعادة نظر شاملة كانت ربما تنجيه من الانهيار الذي انتهت اليه الأحوال، فانه اتجه جنوباً مضيفاً باجتياحه للكويت كارثة ثانية للنظام وللعراق وللمنطقة والى العلاقات العربية ـ العربية التي بات من الصعب ترميمها. وهو فَعلَ ذلك رغم أن حصول الكارثة لا يكون الحل لتداعياتها بكارثة ثانية وانما بالتأمل والتفكير بما يجعل الخسارة تبدأ بالانحسار بمثل التأمل الذي حدث من جانب دولتي «الكونكورد» بريطانيا وفرنسا المختلفتين دائماً على من هي منهما الأحق والأجدر بزعامة اوروبا المتفقتين والمتعاونتين في بعض مجالات الصناعة واللتين وجدتا في الكارثة الاولى لـ«الكونكورد» عندما تحطمت يوم 23 تموز (يوليو) 2000 احدى خمس طائرات من هذا النوع تملكها فرنسا. والذي حدث بعدما أمكن ترميم العبء المالي والجرح المعنوي الكبير الذي أصاب «أم الطائرات» من جرَّاء ذلك التحطم الذي أسفر عن مقتل 113 شخصاً وعادت «الكونكورد» الى تسيير رحلاتها عبر المحيط في أعقاب ادخال تعديلات عدة على الطائرة كلفت الدولتين مالاً كثيراً، هو أن التفكير في ما يجب التخطيط له انتهى الى ضرورة وضع نهاية لـ«الحقبة الكونكوردية» بحيث تتوقف الرحلات من فرنسا يوم 31 مايو (ايار) المقبل وتتوقف من بريطانيا اواخر اكتوبر (تشرين الاول) المقبل. وجاء ذلك خلافاً لما كان شبه متفق عليه وهو أن تستمر بريطانيا التي تملك سبع طائرات «كونكورد» في تسيير الرحلات من لندن حتى العام 2006 وتستمر فرنسا التي تملك خمس طائرات حتى العام 2007. ولكن تقدير الموقف أوجب تقديم الخطوة وهو ما كان بالنسبة الى صدام حسين يجب ألاَّ يفعله لمجرد انتهاء «قادسيته» على ما انتهت اليه وما كان يجب أن يتفاداه فلا يتجه جنوباً ثم يستمر على مدى 12 سنة متمسكاً بأنه حقق «أم المعارك» التي ستستنسخ لاحقاً «معركة الحواسم» مع ان المقومات التي تتطلبها المعركة غير متوفرة بشرياً ونفسياً وسلاحاً.

ونعود الى ما بدأنا الحديث به عن هذه المفارقة لنقول ان زمن صدام حسين وزمن طائرة «الكونكورد» بدآ معاً وانتهيا معاً. ولقد جاءت النهاية بفارق بضع ساعات حيث انتهى «الزمن الصدَّامي» يوم الاربعاء 9 ابريل (نيسان) وانتهى «الزمن الكونكوردي» في اليوم التالي، مع ملاحظة ان «الزمن الصدَّامي» طار الى الأبد.. والى المجهول المعلوم وأن «الزمن الكونكوردي» حطَّ الى الأبد على الارض. ويبقى أن ما نكتبه هو مجرد تأملات في انتظار أن يتضح لنا لغز العصر المتمثل في أن الذي جرى للنظام العراقي لم يحدث لنظام من قبل شرقاً وغرباً!