هل تنشق حركة فتح؟ لماذا لا تنشق حركة فتح؟

TT

تعرضت الفصائل الفدائية الفلسطينية خلال تاريخها الممتد من عام 1963 حتى الآن، إلى سلسلة من الانشقاقات. الجبهة الشعبية انشقت مرتين وخرجت منها الجبهة الديمقراطية (نايف حواتمة) والجبهة الثورية (أبو ثائر ـ عراقي). الجبهة الديمقراطية انشقت وخرج منها حزب فدا (ياسر عبد ربه ـ ثم صالح رأفت). الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة انشقت وخرجت منها جبهة التحرير الفلسطينية (أبو العباس). جبهة التحرير الفلسطينية انشقت بعد العام 1983 إلى ثلاثة تنظيمات، وكذلك انشقت جبهة النضال الشعبي (سمير غوشة). وحدها حركة فتح تعرضت لمحاولات انشقاق عديدة إلا أنها لم تنشق، ولكنها بدت في الأزمة الأخيرة بين الرئيس ياسر عرفات ورئيس الوزراء المكلف محمود عباس (أبو مازن) وكأنها على أبواب الانشقاق. لماذا؟ لماذا لم تنشق حركة فنح عبر تاريخها الطويل؟ ولماذا بدت قابلة للانشقاق عبر أزمة تشكيل وزارة أبو مازن؟

هناك من يتغنى بحركة فتح مضفيا عليها صفات أسطورية تجعل انشقاقها أمرا مستحيلا، ولكن هذه الصفات الأسطورية تصلح للتغني أكثر مما تصلح للتحليل والفهم، بينما تنطوي حركة فتح على صفات موضوعية، أسهمت في تكوينها، هي التي تحول بينها وبين الانشقاق، إلا في ظروف خاصة جدا، من نوع ظروف الأزمة الوزارية.

تتكون الأحزاب عادة، وعلى غرارها الفصائل الفدائية الفلسطينية، من تكوين تنظيمي هرمي، يمتد من الرأس إلى القاعدة، ومن المركز إلى الأقاليم الأخرى. وتتبنى الأحزاب عادة، وعلى غرارها الفصائل الفدائية، فكرا سياسيا محددا (هذا إذا لم تكن مجرد تنظيم صغير غير فاعل حول شخص أو مصالح محددة كما هي حال بعض الفصائل الفدائية الصغيرة). وتقدم الأحزاب عادة لأعضائها، وعلى غرار الفصائل الفدائية الفلسطينية، مواقف سياسية محددة تواكب التطورات، ويتكلم من خلالها أعضاء التنظيم لغة سياسية واحدة مهما اختلفت أو تباعدت أمكنة تواجدهم. وبسبب هذا النوع من التكوين، وحين تحدث داخل التنظيم أزمة فكرية أو سياسية، فإن تفاعلات هذه الأزمة تنتقل من الرأس إلى القاعدة، ومن المركز إلى الأقاليم الأخرى، ويصبح لكل فكرة مختلف عليها أنصار ومؤيدون في هذا الجانب وفي ذاك الجانب، وإذا وصلت الأمور إلى حد القطيعة بين المواقف والآراء، يحدث الانشقاق، ويكون الإنشقاق عموديا من الأعلى إلى الأسفل، وشاملا لجميع المناطق التي يتواجد فيها التنظيم.

هذا الوصف التبسيطي لميكانيكية عملية الإنشقاق داخل أي حزب أو تنظيم،لا ينطبق على حركة فتح، وذلك لسبب جوهري وأساسي، وهو أن بنيتها التنظيمية لم تقم أصلا لا على أساس الهرمية، ولا على أساس الصيغة الموحدة الممتدة من المركز إلى الفروع، ولا على أساس فكر سياسي محدد ومتواصل في التحليل والتقييم.

قامت حركة فتح منذ أن قامت، على مجموعة قليلة من الأفكار (المبادئ) العامة والمبسطة والجامعة: فكرة العمل لتحرير فلسطين، فكرة العمل المسلح وسيلة للتحرير، فكرة قبول كل إنسان فيها مهما كان توجهه الفكري أو انتماؤه الحزبي إذا قبل بالانسلاخ التنظيمي عن تياره أو حزبه والانضواء تحت لواء حركة فتح. وهذا يلغي فكرة الانشقاق على اختلاف والمبادئ والأفكار.

وقامت حركة فتح منذ أن قامت، على أساس وجود (لجنة مركزية) هي القيادة العليا للحركة، كانت تتكون اصلا من 12 عضوا، وتمت زيادتها في مؤتمر العام 1990 في تونس إلى 21 عضوا، وتملك هذه القيادة كل الصلاحيات في حركة فتح، صلاحيات القرار العسكري والسياسي والتنظيمي والمالي، مع انعدام أي نوع آخر من الصلاحيات لدي أية هيئة تنظيمية أخرى، وحتى المجلس الثوري لحركة فتح وهو الهيئة التنظيمية الثانية بعد القيادة العليا، لا يملك صلاحيات القرار بل يملك صلاحيات التوصية بالقرار، وقد أصبح له مع الزمن نفوذ معنوي ولكن من دون أية صلاحيات تنظيمية محددة.

وقامت حركة فتح منذ أن قامت، على أساس وجود «أقاليم»، وعلى أساس وجود «مفوضين». فهناك إقليم لبنان، وإقليم سوريا، وإقليم الأردن.... الخ، واللجنة المركزية هي التي تعين مسؤول الإقليم وهو الذي يتولى الإشراف على الشؤون الإدارية واللوجستية والتنظيمية في مجال عمله الجغرافي، ومن دون تدخل من أحد، ومن دون أية صلة مع الأقاليم الأخرى. وهناك بالإضافة إلى ذلك «مفوضون» يتولون الإشراف على أجهزة حركة فتح، ويكون المفوضون عادة من قادة الحركة العليا (أعضاء اللجنة المركزية)، فهناك مفوض الأمن (صلاح خلف)، وهناك مفوض الإعلام (كمال عدوان)، وهناك مفوض المالية (محمد يوسف النجار)، وهناك مفوض التعبئة والتنظيم (خالد الحسن)..... الخ، وكل مفوض مطلق الصلاحية في ميدان عمله ولا يتدخل أي طرف آخر في شؤونه.

وربما كانت حركة فتح هنا، تنفرد عن كل الفصائل الفدائية الأخرى، بأن ما يسمى بـ«التنظيم»، الذي هو عماد العمل كله لدى الأحزاب والفصائل الأخرى، هو مجرد فرع من فروع تكوين حركة فتح إلى جانب فروع المالية والإعلام والعمل العسكري، وهو ما يعني أن «التنظيم» ليس هو الأساس في تكوين حركة فتح. (باستثناء ظواهر مثل التنظيم الطلابي، وتنظيم بلدان بعيدة مثل التنظيم في الولايات المتحدة الأميركية).

وبسبب هذه البنية الخاصة لحركة فتح فإن أي خلاف كان ينشأ داخلها، من النوع الذي يمكن أن يؤدي إلى الإنشقاق، لم يكن يجد أمامه مسارب للتوسع والانتشار، فإذا نشب خلاف في القيادة فليس هناك تنظيم هرمي تنتقل إليه أفكار الخلاف، وإذا نشأ خلاف في إقليم معين فإن هذا الخلاف يبقى معزولا داخل إطاره الجغرافي ولا توجد صلات تسمح بانتقاله إلى الإقليم الآخر، وكذلك إذا نشأ خلاف داخل مفوضية محددة فإن الخلاف يبقى داخل إطارها. ولعل أبرز مثال على ذلك هو انشقاق العام 1983 داخل حركة فتح، والذي كان أبرز وأكبر انشقاق فيها، شارك فيه أعضاء من اللجنة المركزية، ومن المجلس الثوري، ومن العاملين في النقابات، ومن فرق عسكرية أساسية، فقد بقي محصورا داخل إقليم سوريا ولم يستطع أن يمتد إلى الأقاليم العربية الأخرى التي تعمل فيها حركة فتح. (بالإضافة إلى عوامل أخرى تحتاج إلى تحليل موسع).

هل يعني هذا الوصف أن حركة فتح عصية على الإنشقاق؟ طبعا لا. ولكن الانشقاق داخل حركة فتح، وبسبب هذا التكوين الذي شرحناه، يحدث في حالة واحدة فقط: عندما ينشأ خلاف حول المسألة الوطنية. فالمسألة الوطنية مسألة جامعة لكل أعضاء الحركة مهما كان الإقليم أو المفوضية أو الايديولوجية التي ينتمون إليها. والمسألة الوطنية تستطيع أن تتجاوز المسارب التنظيمية والجغرافية فتوجد لنفسها مساربها الخاصة، وهذا هو بالذات ما حدث أثناء الخلاف حول تشكيل الوزارة الفلسطينية، فقد برز خلاف داخل قيادة حركة فتح حول المسألة الوطنية، هل تعالج بهذا الأسلوب أو ذاك، وحول هذه المسألة انقسمت القيادة، وامتد الانقسام إلى جميع أعضاء الحركة، وبغض النظر عن حجم أنصار الفريقين.

تبقى مسألتان أساسيتان لتكوين صورة أساسية للفهم والتحليل:

المسألة الأولى: إن الضفة الغربية وغزة شهدتا بناء تنظيميا لحركة فتح خلافا للأقاليم الأخرى التي عملت بها، ويعود ذلك إلى ظروف الاحتلال، حيث الحاجة ملحة للعمل السري والذي لا تلبيه سوى بنية تنظيمية حسب النسق المعروف في هذه الظروف، وبوجود هذا التنظيم كان لا بد للعلاقة بينه وبين القيادة أن تتخذ منحى تفاعليا بالاتجاهين، وساعد وجود هذا التنظيم في نقل الأفكار ومناقشتها وأداء دور في قبولها أو رفضها، وبخاصة في مسألة الخط السياسي الوطني المتعلق بتشكيل الوزارة الفلسطينية.

المسألة الثانية: هناك ميزة فلسطينية خاصة، وهي أن الخلافات بين الفصائل الفدائية، فكرية كانت أو سياسية، والخلافات داخل حركة كبيرة وفاعلة مثل حركة فتح، لا تبقى مسألة داخلية بعيدة عن الشارع وعن الجمهور، وهي ما تلبث أن تتحول إلى خلافات في الشارع الفلسطيني نفسه. حدث هذا كثيرا في السابق، أيام تشكيل (جبهة الرفض)، وأيام إطلاق شعار الدولة الفلسطينية، وايام توقيع اتفاق أوسلو، وايام مفاوضات الوحدة الوطنية في القاهرة، واخيرا أيام مباحثات تشكيل الوزارة الفلسطينية.

لقد كانت حركة فتح (ومعها الفصائل الأخرى والشارع) مهددة بالانقسام حول المسألة الوطنية، وهي نجت من ذلك بوساطة مصرية مباشرة، وبعهود شرف تم التفاهم عليها، ولكن..... ولكن المسألة الوطنية الفلسطينية لا تزال مفتوحة على الصراع والحوار.