تحرير العراق يتم بزوال الاحتلال

TT

اسئلة الاسبوع الماضي في العراق بدت حلقة مستجدة في المشهد العبثي المخيم هناك، ذلك ان مناسبة الذكرى الاربعين لاستشهاد الامام الحسين التي احتشد لها في كربلاء مئات الآلاف من البشر، اثارت العديد من التساؤلات التي اكتظت بها وسائل الاعلام فجأة، عن الشيعة وقوتهم ودورهم في العراق الجديد، كما جرت تساؤلات أخرى حول علاقتهم بالنموذج الايراني واحتمالات استنساخه، وعن اصابع ايران في الجنوب العراقي، ومن ثم بدأ البعض يتحدثون عن حظوظ الاصولية وحدود العلمانية في حكومة المستقبل، وفتح الملف أثار تساؤلات أخرى عن موقع السنة وعما اذا كان مرشحا للتراجع أو الاحياء.

وفي حين جذبت كربلاء الشيعية الأنظار، فإن التقارير تحدثت عن ظهور حزب اسلامي سُنِّي في الموصل، وكان الجدل شديدا في كركوك حول حقوق العرب والأكراد والتركمان فيها، وكيف ان حكم البعث حاول «تعريبها» فطرد الأكراد منها، وكيف ان العرب المقيمين تلقوا تهديدات بالتعرض للأذى اذا لم يغادروا ويعودوا من حيث أتوا.

وفيما توافرت التقارير الاخبارية حول هذه الأمور، فإن المعلقين والمحللين لم يقصروا في «اثراء الحوار». فمنهم من فتح سجل المظلومية التي تعرض لها الشيعة طيلة العقود الثمانية الماضية، ودعا أهل السنة الى ادراك هذه الحقيقة، وتقبل فكرة انصاف الشيعة ورد الاعتبار لهم في حظوظ الحكم والسياسة. ومنهم من فتح ملف الخلافات الشيعية ـ الشيعية، في داخل حوزة النجف، وأفاض في تسليط الضوء على العلاقة بين النجف الأشرف في العراق ومدينة قم في ايران، فقال البعض انها علاقة حوار وتنوع، وأفاد آخرون انها علاقة تنافس وصراع على الموارد والمكانة، وقرأت لمن حذر من تدخل العجم (الغمز من ايران) في شؤون العرب، ولمن حذر من الزحف الاصولي وخطورته على مستقبل العراق والعالم العربي، وتطوع أحد المحللين بالحديث عن صحوة شيعية في المنطقة العربية بعد ظهور الشيعة بمظهر القوة والحضور الكبير في كربلاء بعد احتجاب تجاوز ربع قرن.

هذه الحوارات احتلت مساحات متفاوتة من صحف الاسبوع الماضي، وتابعها كثيرون عبر البرامج الاذاعية والتلفزيونية التي شاركت في بعضها، حتى بدا وكأن مشكلة العراق محصورة في خريطتها المذهبية والعرقية، وان موضوع الاحتلال تراجعت أهميته. حدث ذلك بينما كانت الاخبار تشير الى اقامة أربع قواعد عسكرية اميركية في أنحاء العراق، تمهيدا للاقامة الطويلة، وكان الجنرال الاميركي جاي غارنر ومساعدوه يطوفون انحاء العراق، ويهيئون المسرح لبقائهم، ويحاولون اقناع الجميع بأن احلام العراق في الاستقرار والحرية والرخاء لن تتحقق إلا على ايديهم، ومن خلال ما يضعونه من خطط وبرامج.

هل يمكن ان تفترض البراءة في انشغال الرأي العام في العراق وفي العالم العربي بالقضايا المذهبية والعرقية، وصرف انتباهه عما يمثله ويدبره الاحتلال للعراق وللأمة العربية كلها؟ اجابتي عن السؤال بالنفي، ويقيني ان استدعاء تلك الملفات هو بمثابة «كمين» للمستقبل العراقي، من وقع فيه هلك، ومن انتبه إليه وتجاوزه نجا. وأرجو ألا أكون بحاجة الى تذكير الجميع بأن عملية تخويف العراقيين من الصراع بين السنة والشيعة، أو بين العرب والأكراد، أو بين الاصوليين والعلمانيين، يراد به في نهاية المطاف اقناع الرأي العام بأن الوجود الاميركي هو الحل، وان البقاء الاميركي هو الضمان وهو طوق النجاة من تلك المحن والحرائق المحتملة، وهو ما حاولت التنبيه إليه في كل حوار دعيت للمناقشة فيه طيلة الاسبوع الماضي.

وحتى أكون واضحا فإنني لا أنكر ان للعراق مشكلاته التي يتعلق بعضها بتركيبته وفسيفسائه، والبعض الآخر يتعلق بآثار سنوات القمع والذل التي عاش في ظلها المجتمع، لكنني أشدد على أمرين هما:

ـ انه من المهم للغاية ان ترتب المشكلات حسب أهميتها، وان تكون الأولوية فيها محسومة، بحيث يغلق الباب أمام خلط الأوراق ومحاولات التشتيت والارباك، وفي اعتقادي ان أهم قضيتين في العراق الآن هما الاحتلال أولا والاستقرار ثانيا. الأول ينبغي ان يزول بسرعة، والثاني يجب أن يتحقق بمنتهى السرعة للنهوض بذلك القطر المبتلى.

ـ ان الكثير من المشكلات التي يحاول البعض حلها عبر المدخل الطائفي أو العرقي، تجد حلها بطريقة أنجع، وبكلفة أقل كثيرا عبر المدخل الديمقراطي، ذلك انني أزعم ان القوى الوطنية الواعية لا يهمها كثيرا حجم تمثيل الشيعة والسنة أو العرب والأكراد وغيرهم، بصفاتهم المذهبية أو العرقية، وإنما أكثر ما يهمها ان يتم التمثيل من خلال اختيار جماهيري حر تتساوى فيه الفرص والرؤوس، وقد علمتنا الدروس التي تلقيناها في تجارب عشناها وعاشها غيرنا ان توفير فرصة المشاركة الحرة من جانب مختلف فئات المجتمع كفيل بتذويب المرارات ورأب الصدوع التي تتخلل ذلك المجتمع، كما علمتنا تلك الدروس ان وجود الحلم المشترك، واسهام الجميع في تحقيقه هو الإطار الأصدق لتوفير التلاحم والتعايش بين فئات المجتمع، وان غياب ذلك الحلم المشترك وتراجع الدور القيادي للدولة في تحقيقه، يدفع كل فئة لان تحتمي بمظلتها الخاصة، مذهبا كان أم عشيرة وقبيلة.

أدري ان الخلل في ترتيب الأولويات اسهمت في حدوثه حالة الفراغ السياسي التي نشأت مع غياب النظام السابق، وهو النظام الذي سحق مؤسسات المجتمع المدني، ومختلف قوى الشعب العراقي، لكن حملة التدمير المنظم التي قام بها فشلت في تقويض دور المسجد والمرجعية الدينية، وهي الأطر التي ظلت باقية بسبب ثباتها وعمق جذورها، وقد حاول النظام السابق توظيفها لحسابه، لكن نجاحه في ذلك كان محدودا، وفي غياب القوى السياسية الفاعلة، التي تحول أغلبها الى انقاض أو شراذم في المنافي، فان الجماهير التي خرجت الى الشارع بعد طول احتباس وقهر، لم تجد أمامها سوى تلك الأطر الجاهزة التي تمثلت في المسجد والمرجعية، وأغلب الظن ان الأمر كان يمكن ان يختلف بصورة نسبية، لو كانت هناك أطر سياسية أخرى لها أي حضور في الشارع العراقي، ولا ينسى هنا ان الاحزاب التقليدية في العراق صهرت التمايزات الموجودة، حيث اجتمع فيها السنة والشيعة والعرب والأكراد والتركمان والآشوريون وغيرهم.

جدير بالذكر في هذا السياق ان القيادات الدينية التي ارتفع صوتها في الشارع العراقي في الآونة الأخيرة عبرت أغلبيتها عن رؤية ناضجة وواعية الى حد كبير. على الأقل هذا ما بدا في تصريحات آية الله علي السيستاني والسيد محمد باقر الحكيم والدكتور احمد الكبيسي، وقد تحدثوا عن ضرورة زوال الاحتلال ومقاومته بالطرق السلمية في البداية، كما تحدثوا عن أهمية اللقاء والعمل المشترك بين الشيعة والسنة، كما أشار الشيعة منهم بوضوح الى ان النموذج الايراني لا محل له في العراق، ورغم ان الشعارات التي رفعتها التظاهرات دعت الي الوقوف الى جانب العراق الوطن، وليس الطائفة أو العرق، كما اعربت عن رفض الوجود الاميركي والحكومة العسكرية وعملاء الولايات المتحدة، أقول رغم ذلك فان الخطاب الاعلامي ما برح يلح على الاختلافات والتمايزات التي سبقت الاشارة إليها، الأمر الذي يثير العديد من علامات الاستفهام حول دوافع وتداعيات ذلك الالحاح المريب، الذي يؤدي بالضرورة الى تلغيم الساحة العراقية واشاعة التوتر المستمر فيها، والمستفيد في كل ذلك هو أي طرف آخر غير الشعب العراقي، وذلك مما يسعد المحتلين لا ريب، ولا غرابة أيضا في حفاوة بعض التعليقات الصحفية الاسرائيلية بالطرح المذهبي للشأن العراقي، الذي يدركون جيدا انه سيؤدي الى اضعاف الجميع، والتمكين للاميركيين وعملائهم، الذين اعدوهم عبر سنوات ثم جاءوا بهم مع القوات الغازية وتلك هدية طيبة لاسرائيل، يقدمها لها بعض الحمقى العرب بالمجان.

ان التحرير الحقيقي للعراق لايكون باسقاط نظام صدام حسين فحسب، وإنما بزوال الاحتلال أيضا. الأول صار تاريخا، والثاني هو تحدي المستقبل في العراق.