كسب الحرب.. وخسارة السلم

TT

لقد كسبت اسرائيل تقريبا جميع حروبها مع العرب ولكنها في النهاية خسرت السلم وأصبحت تواجه خلال السنوات الأخيرة أكبر مشكلة أمنية منذ تأسيسها في عام 1948. ويمكن لأمريكا وبريطانيا اليوم بعد كسبهما الحرب على العراق ان تواجها نفس الوضع وتخسرا السلم والأمن، ليس في بلاد الرافدين فقط ولكن في المنطقة العربية بأسرها. فهناك مجموعة من تحديات ما بعد الحرب التي من شأن الفشل في معالجتها ان يُلحق اضرارا كبيرة بأمريكا وبريطانيا وبدول وشعوب المنطقة كلها. ولهذا فإن طبيعة المرحلة الراهنة تتطلب من أمريكا وبريطانيا ومن الشعب العراقي ودول الجوار ان يعملوا وينسقوا معا لمعالجة مشاكل التحديات الصعبة في عراق ما بعد صدام. فلقد كان العرب والمسلمون يعارضون الحرب وغالبيتهم كانوا يتمنون خسارتها من قبل أمريكا وبريطانيا ليس حبا في صدام وانما خوفا من عواقب الوجود الأمريكي والبريطاني العسكري في العراق. ولكن حالة الحرب انتهت الآن وأصبحت من التاريخ وحققت أمريكا وبريطانيا انتصارا عسكريا ساحقا وأصبحنا نواجه حالة جديدة هي حالة ما بعد الحرب وسقوط نظام صدام الذي اسعد الشعب العراقي، وانهيار جميع المؤسسات السابقة للدولة العراقية. وبصرف النظر عن تقديراتنا وفهمنا ومواقفنا السابقة للحرب فإن مصلحة جميع الأطراف المعنية ـ (أمريكا وبريطانيا، وجميع فئات الشعب العراقي، ودول الجوار، اضافة إلى الأمم المتحدة وأوروبا وروسيا والصين) ـ أصبحت تتمثل الآن في محاولة التفاهم والتنسيق والعمل المشترك لكسب السلم والأمن بعد انتهاء الحرب.

ولن تتمكن هذه الأطراف من تحقيق هذا الانجاز الكبير إلا إذا تمكنت من معالجة التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية لفترة ما بعد الحرب بشكل ناجح. صحيح ان أمريكا وبريطانيا تتحملان مسؤولية الحرب وجميع نتائجها السياسية والأخلاقية والانسانية والاقتصادية، كما تتحملان المسؤولية الرئيسية لمعالجة مشاكل وتحديات ما بعد الحرب، إلا ان هذه الحقيقة لا تنفي دور العراقيين، وكذلك العرب والمسلمين في تحمل مسؤولية المشاركة في معالجة تحديات المرحلة الحرجة الحالية والقادمة. فحقائق الواقع السياسي والعسكري الحالي أصبحت الآن تتطلب من جميع الأطراف المعنية معرفة كيفية العمل والتعامل معا لمواجهة التحديات الصعبة ولكسب السلم في العراق وفي المنطقة.

أول تحديات ما بعد الحرب، وربما أخطرها، هو تحدي المحافظة على وحدة العراق وسلامة أراضيه. ويرتبط هذا التحدي بمسألة الوحدة الوطنية في العراق والتي تواجه مشكلتين رئيسيتين تتمثلان في الانقسام العرقي (الاثني) بين العرب والأكراد وفي الانقسام الطائفي السني والشيعي. ان الدعوة الحالية الى الأخوة الإسلامية بين العرب والأكراد وبين السنة والشيعة تمثل توجها سياسيا وطنيا صحيحا وجيدا ومفيدا، ولكنها لن تكون كافية لمعالجة المشاكل التي خلقها وبلورها نظام صدام بين العرب والأكراد وبين السنة والشيعة منذ أكثر من ثلاثين عاما. ولا بد الآن من الاتفاق على أسس وطنية عراقية تضمن حقوق الأكراد وهويتهم ومشاركتهم الحقيقية الفعالة في عراق وطني متلاحم جديد. وعلى الرغم من ان تجاوب وتفاعل الدور الأمريكي ضروري لتحقيق التفاهم بين العرب والأكراد إلا ان المسؤولية الأكبر في مواجهة هذا التحدي الخطير تقع بيد العراقيين العرب والأكراد أنفسهم. ومن المهم للعرب ـ في سياق التعامل مع هذه المشكلة ـ ليس في العراق فقط ولكن في جميع أنحاء العالم العربي ان يتفهموا بشكل أفضل حقيقة الظروف والاعتبارات النفسية والسياسية والانسانية والاقتصادية التي عاشها أكراد العراق تحت نظام صدام لسنوات طويلة.

ولا يقل خطر الانقسام الطائفي السني الشيعي في العراق عن خطر الانقسام الاثني العربي الكردي. فعدم التفاهم يدفع نحو التفرقة التي لا يمكن معالجتها إلا من خلال بناء وتدعيم أسس وطنية عراقية إسلامية عربية تعمل على تعزيز وصهر جميع الفئات في عراق وطني جديد قديم. جديد بعد التجزئة التي خلقها نظام صدام وقديم في احيائه للتعايش التاريخي الطويل لجميع فئات الشعب العراقي. وكما هي حالة الأكراد تحت حكم صدام فلقد عانى شيعة العراق أيضا تحت سيطرته من أشد أنواع الظلم والاضطهاد السياسي والإنساني والطائفي إضافة إلى الحرمان الاقتصادي. وان من شأن التوجه الحالي نحو تدعيم روابط وصلات السنة والشيعة في العراق ان يبدد جميع مخاوف الطائفية ومحاذير تحويلها من مجرد طائفية دينية مذهبية الى طائفية سياسية. ولتقوية وتجسيد وتعزيز دعوة التلاحم بين السنة والشيعة في العراق ولتفويت الفرصة على جميع القوى الخارجية لاستغلال الانقسام الطائفي في المنطقة لخدمة مصالحها وأهدافها السياسية، فإنه ينبغي على علماء المسلمين ومفكريهم وجميع تياراتهم الدينية والسياسية من السنة والشيعة في العراق وإيران والدول العربية والإسلامية المعنية ان يشاركوا في بلورة وتجسيد التقارب الحالي بين الشيعة والسنة في العراق وفي مختلف مناطق العالم الإسلامي، وان يتجنبوا اصدار أي دعوة أو اتخاذ أي موقف يمكن ان يؤدي إلى التفرقة والانقسام. ولقد شهدت جنادرية السنة الماضية في الرياض تنظيم ندوة ثقافية خاصة عن حوار السنة والشيعة في الإسلام. وينبغي تعميم وتوسيع نطاق ومجال هذا المنهج التقاربي الديني المهم والضروري عراقيا وعربيا وإسلاميا.

وان أي صوت إسلامي سني أو شيعي يرفض هذا التوجه ويخالفه أو يعارضه فإنه يصبح حليفا أوليا غير مباشر لصقور أمريكا في العالم الإسلامي، سواء ادرك أمر هذا التحالف أم لم يدركه. واضافة إلى تحدي الوحدة الوطنية فإن هناك اربعة تحديات رئيسية أخرى في عراق ما بعد الحرب التي يمكن مناقشتها والتي تحتاج إلى حسن التدبير والمعالجة من جميع الأطراف المعنية. أول هذه التحديات هو تحدي تحقيق الأمن والاستقرار وإدارة الأمور في العراق ثم انهاء الاحتلال واقامة حكومة وطنية دستورية تمثل جميع فئات الشعب العراقي. وثاني هذه التحديات هو تحدي اعادة اعمار العراق، ويتمثل ثالثها في احتواء خطر توسع العمليات العسكرية الأمريكية إلى دول الجوار وخاصة سورية وإيران وخطر زيادة العداء والتوتر والمواجهة والصدام بين أمريكا والعالمين العربي والإسلامي، ومما يساعد على مواجهة هذا التحدي النجاح في تحقيق تسوية مقبولة للقضية الفلسطينية. وآخر التحديات الرئيسية هو تحدي اعادة دمج العراق في منظومات التفاعل الخليجية والعربية والإسلامية والدولية.