ليلة هامة من أجل روح الإنسانية

TT

في أشد الأوقات صعوبة أقام الاميركيون العرب عشاءهم السنوي بمناسبة جوائز «روح الإنسانية باسم خليل جبران» في مدينة واشنطن. وقد عبرت هذه الفعالية التي تحمل اسم الشاعر الاميركي العربي الشهير المتحدر من أصل لبناني عن تقديرها لأفراد ومؤسسات «يتميز التزامهم ودعمهم في العمل في تعزيز التعايش والتضامن في مختلف مجالات الحياة». وتهدف الجائزة ايضا الى تعزيز «القوى الايجابية للتنوع والتفاعل الثقافي، وعرض برامج تشجع القيم الديمقراطية والانسانية في أوساط الجماعات العرقية والاثنية والدينية».

وارتباطا بالهجوم الذي تتعرض له الحريات المدنية في الولايات المتحدة، ومواجهة العراق لكارثة انسانية واضطراب اجتماعي، والدمار الذي يلحق بالفلسطينيين بسبب الهجوم الاسرائيلي الوحشي المتواصل، قد يرى البعض من الصعب وجود «روح الانسانية» متجلية في عالمنا. ولكن بالنسبة للـ 700 الذين التقوا في الحفل السنوي الخامس للمعهد العربي الاميركي كانت تلك الروح تتجلى في كل مكان.

وكان المكرمون في العام الحالي مجموعة استثنائية. فقد كرمت «منظمة العفو الدولية» في الولايات المتحدة، وهي أكبر منظمة لحقوق الانسان الاساسية في العالم، على دفاعها، بعد الحادي عشر من سبتمبر، عن أولئك الذين كانوا ضحايا جرائم الكراهية، وأولئك الذين انتهكت الاجراءات الحكومية حقوقهم. وكرمت «مؤسسة الرحمة الدولية»، وهي منظمة انسانية عالمية، على جهودها في برنامج اغاثتها العالمي النطاق، حيث تركز عملها، بشكل خاص، في لبنان وفلسطين والبلقان والعراق. وكانت مؤسسة الرحمة مشاركة ايضا في معالجة صدمة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر لدى اطفال الولايات المتحدة عبر برامج ركزت على خلق فهم واحترام بين الثقافات المختلفة.

ومنحت جائزة المسؤولية المشتركة لشبكة «أم تي في» التلفزيونية تقديرا لحملتها الموسومة «كافحوا من أجل حقوقكم» الهادفة الى تشجيع الشباب على مكافحة التمييز والتعصب. واستحقت «أم تي في» الثناء، ايضا، على حملتها الاعلانية النشيطة في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر التي سعت الى تعزيز الاحترام للاميركيين العرب والمسلمين الاميركيين.

ومنحت جائزة خاصة جدا للسيدة هيلين توماس، الاميركية العربية، احدى ارفع الصحفيات في اميركا. وظلت توماس مراسلة البيت الابيض خلال فترات حكم ثمانية من رؤساء الولايات المتحدة، وبقيت محترمة وموهوبة الجانب بسبب امانتها ومثابرتها في الوصول الى الحقيقة.

وتجسد جانب عاطفي مشرق في الليلة عبر التعبير عن الاجلال لراشيل كوري، الناشطة في حركة التضامن العالمية، والتي قتلت عندما سحقها بلدوزر اسرائيلي وهي تحاول حماية بيت فلسطيني من التهديم. فبعد عرض شريط فيديو آسر، يصور راشيل وهي في عمر الثامنة توجه نداء متقدا حول الحاجة الى مكافحة الجوع في العالم، وقف الحاضرون تعبيرا عن احتفائهم بعائلة كوري التي كانت حاضرة في الامسية.

وألقى السناتور ادوارد كنيدي. الخطاب الرئيسي في الاحتفال وركز عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي عن ماساتشوسيتس خلال ثماني ولايات على الحاجة الى حماية الحقوق الدستورية للاميركيين العرب والمسلمين الاميركيين، وكذلك الحاجة الى معالجة الازمة الانسانية الناشئة في العراق.

لقد رسخت فعالية عشاء خليل جبران، على الرغم من انها ما تزال في عامها الخامس، موقعها ليس فقط كحدث مميز بالنسبة للجالية الاميركية العربية، وانما ايضا كفعالية رئيسية في مدينة واشنطن. فقد شهدت أماسي جبران السابقة شخصيات بارزة مثل الرئيس كلينتون، ووزراء في ادارتي كلينتون وبوش، والعشرات من اعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، ونجوم هوليوود، ورؤساء شركات اميركية كبيرة، وسفراء عرب، وزعماء للاميركيين العرب من مختلف انحاء البلاد.

غير انه في هذا العام، واذا ما أخذنا البيئة المحيطة بنا، كان هناك بعض من تساءلوا، في الواقع، عن سبب اقامة المؤسسة فعاليتها. وبحلول نهاية الامسية كان جواب المؤسسة واضحا.

والحقيقة البسيطة لا تتجلى فقط في ان «روح الانسانية» حية ومعافاة، بل انه في الازمنة الشاقة نحتاج الى تذكير بأنه على الرغم من، وربما بسبب، اللاانسانية وعدم الاستقرار السائدين في الحياة، هناك مجموعة شجاعة تواصل العمل من أجل تخفيف المعاناة والدفاع عن حقوق أولئك الذين هم أكثر عرضة للانتهاك. وبعملهم هذا يتحدوننا ويحفزوننا على الانضمام الى جهودهم.

وبالنسبة للاميركيين العرب تعد امسية جبران تعبيرا هاما. فعندما جاء الرئيس كلينتون الى الفعالية قبل ثلاث سنوات اشار الى ان الجالية تعلن عن نفسها عبر اولئك الذين تختار تكريمهم. فعندما يكرم الاميركيون العرب الناس العاملين في مجالات الخدمات المدنية، والاغاثة الانسانية، والدفاع عن حقوق الانسان، وكذلك المؤسسات التي تعزز التفاهم، فانما يطرحون انفسهم كجالية تسعى الى قيم هي في صلب تراثهم، وبعملهم هذا ينجزون الرؤية التي عبر عنها جبران في رسالته المفتوحة للشباب الاميركيين العرب التي كتبت قبل ثلاثة ارباع قرن. وفي تلك الرسالة كتب يقول:

«أثق بأنكم مساهمون في هذه الحضارة الجديدة. أثق بأنكم ورثتم عن اسلافكم حلما قديما، أغنية، نبوءة، يمكن ان تضعوها، بفخر، كهبة امتنان في حضن اميركا.

أثق بأنكم تستطيعون ان تقولوا لمؤسسي هذه البلاد العظيمة: «هاآنذا، شاب، شجرة فتية اقتلعت جذورها من جبال لبنان، غير ان جذوري عميقة هنا، وسأكون مثمرا».

أثق بأنكم تستطيعون ان تقولوا لايمرسون وويتمان وجيمس: «في عروقي تجري دماء الشعراء والشيوخ الحكماء، وانها لرغبتي في ان آتي اليكم واستقي منكم، لكنني لن آتي بيدين فارغتين».

وفي قصيدة أخرى تحمل عنوان «أرثي للبلاد» قال جبران انه يرثي للبلاد «التي تحتفي بالمتنمر بطلا، وترى في الفاتح كريماً». وفي تكريمهم لراشيل كوري، التي ضحت بحياتها دفاعا عن بيت، أو هيلين توماس، التي كافحت طيلة 60 عاما دفاعا عن الحقيقة، أو آلاف العاملين في الاغاثة وابطال حقوق الانسان من مؤسسة الرحمة ومنظمة العفو الدولية، فإنهم يعبئون طاقاتهم من أجل بلد آخر مختلف. انهم يعززون بلداً قائما على المعروف والاحترام، بلدا يكرم «روح الانسانية». وعلى الرغم مما يتجلى في الشرق الاوسط، وهنا في الولايات المتحدة، فإن الاميركيين العرب يعملون مع أولئك الساعين الى اقامة اميركا افضل ـ بلد مخلص لقيمه، وعادل تجاه جميع أهله.

تلك هي الرسالة التي وجهناها، وذلك هو، على وجه التحديد، ما جعل من أمسية جبران أمسية هامة.