صراع الشرعية والقوة

TT

لاحظ وزير الخارجية الامريكي الاسبق هنري كيسنغر في المقالة الهامة التي نشرتها له «الشرق الأوسط» 03/4/13 حول العلاقات الامريكية الاوروبية بعد حرب العراق الاخيرة، ان الولايات المتحدة تواجه اشكالات كبيرة في نمط علاقاتها مع حلف شمال الاطلسي المعرض للانهيار، وهو الذي ظل «النقطة المحورية في السياسة الخارجية الامريكية طيلة نصف قرن».

وتعود هذه الاشكالات الى الازمة الحادة التي عرفتها العلاقات الامريكية الاوروبية في الفترة الاخيرة، وقد عكست اختلافا عميقا بين الجانبين من حيث الرؤية الاستراتيجية للنظام الدولي ودور هيئة الامم المتحدة فيه. وقد خلص كيسنغر الى ضرورة رجوع الولايات المتحدة الى ركيزتي سياستها الخارجية التقليدية وهما: تعميق التحالف مع الطرف الاوروبي وتفعيل دور المؤسسات الدولية في حفظ السلم وادارة العلاقات بين الامم، تفاديا للانزلاق الى سياسات القوة التي سادت في القرن التاسع عشر.

وبطبيعة الامر، فإن كيسنغر هنا يرد على اطروحات المدرسة الصاعدة في الادارة الامريكية التي تقدم مقاربة جديدة للعلاقات الدولية ولمنزلة الولايات المتحدة في الرهان الاستراتيجي بعد الحرب الباردة.

وتقوم هذه المدرسة، التي غدت جد معروفة في الفترة الاخيرة بعد انتشار كتابات وتصريحات المحافظين الجدد المهيمنين على دوائر القرار، على جملة مرتكزات تتمحور حول النكوص الى مقاربة الهيمنة الاحادية (بالمفهوم الوسيط)، اي تبرير وتشريع انفراد الولايات المتحدة بالقوة والسيطرة، من حيث هي في آن واحد «ضمير العالم الخلقي» و«نموذجه العيني للاحتذاء» ومن ثم رفض كل مفاهيم «التعددية القطبية» او «السيادة المشتركة» التي سادت في السنوات الاولى التي تلت نهاية الحرب الباردة وعبرت عنها اتجاهات القانون الدولي الجديد.

ولقد بلور نائب وزير الدفاع الامريكي الحالي بول فولفوتيز منذ عام 1992 عندما كان مستشارا للرئيس بوش الأب، مشروع عقيدة استراتيجية جديدة للولايات المتحدة تقوم على إحكام السيطرة المطلقة على العالم واعادة صياغة النظام الدولي بحسب مقتضياتها.

كما عبرت عن هذا التصور مستشارة الامن القومي كونداليزا رايس في مقالة تعود لعام 2000 منشورة في مجلة «فورين آفيرز» انتقدت فيها التراث الولسوني، وخلصت فيها للقول: «يجب على الولايات المتحدة ان لا تضحي بمصلحتها القومية لأجل البحث عن مصالح مشتركة في نظام دولي شامل». من هذا المنظور تسعى الادارة الامريكية الى اعادة صياغة النظام الدولي، بالغاء الدور المحوري لهيئة الامم المتحدة بصفتها المؤسسة المعنية بحفظ السلم العالمي واختزال جهودها ونشاطها في الاعمال الخيرية الانسانية، كما تسعى الى التنصل من الاتفاقات الدولية الملزمة التي تكبل يدها في المحيط الدولي.

وفق هذا المنظور، تتغير دوائر التحالف الاستراتيجي المألوفة التي لم تعد محصورة في الانساق التي تشكلت في الحرب الباردة، وانما اصبحت مسؤولية الولايات المتحدة ـ من حيث القوة الوحيدة المنوط بها حفظ السلم الدولي ـ مسؤولية شاملة.

ولاجل ضمان المصالح الامريكية (التي تتماهى مع مقتضيات السلم العالمي الشامل)، تطرح العقيدة الاستراتيجية الامريكية بديلا ثلاثيا هو الجمع بين القوة العسكرية الرادعة (الضربة الاستباقية والتدخل المباشر) وفرض القيم الديمقراطية (لتفكيك نوازع العنف والتعصب الداخلي) والتحكم في المنظومة الاقتصادية المعولمة (من خلال المؤسسات المالية الدولية).

وكان من الطبيعي ان تصطدم العقيدة الاستراتيجية الامريكية الجديدة بالرأي العام الاوروبي الذي جسدت مواقفه فرنسا والمانيا وهما قاطرة الاتحاد الاوروبي والامينان على قيم التنوير والنزعة الانسانية الغربية الحديثة.

بيد ان حرب العراق اظهرت بوضوح عجز الاتحاد الاوروبي على تحديد سياسة خارجية ودفاعية مشتركة، وهو الطموح الثابت لدى النخبة السياسية الاوروبية.

وكما بين زكي العائدي، فإن الاتحاد الاوروبي، يقف على مفترق الطرق اليوم، اثر انهيار وحدة المصير بينه وبين الولايات المتحدة التي كان دورها اساسيا في تشجيع ودعم قيام هذا الاتحاد.

فالاختلاف القائم حاليا بين الفلسفة الاستراتيجية الاوروبية والعقيدة الامريكية الجديدة ليس اختلافا في القيم ذاتها وانما في جوهر العمل السياسي، وكما يرى العائدي فإن الولايات المتحدة باعتبارها دولة عظمى عاجزة عن التفكير خارج مفهوم الهيمنة والاحتفاظ بالسيادة القصوى، وباعتبارها المستفيد الاول من ديناميكية العولمة فإنها لا تجد فيها خطرا على سيادتها. اما الدول الاوروبية التي كانت اول من اكتشف مفهوم «السيادة القومية» فقد غدت تحبذ خيار «تقاسم السيادة» الذي هو شرط قوتها. ويعني هذا الخيار في المستوى الاستراتيجي وضع قواعد معيارية ثابتة لتحديد العلاقات بين الامم من خلال اتفاقات وتشريعات دولية ملزمة تعوض ضغط الهيمنة واطماع القوة.

فالسؤال الملح الذي طرحته حرب العراق الاخيرة على الطرف الاوروبي هو: ما هي نجاعة نموذج قائم على حاكمية الشرعية في مواجهة الهيمنة الاحادية المنفردة؟

ان الاشكال المترتب على هذا السؤال يتعلق بمنزلة اوروبا في المحيط الدولي من حيث هي قوة اقتصادية كبرى تنافس الولايات المتحدة، وقد تتجاوزها في المدى المنظور، كما انها تقدم جل الاعانات والمساعدات لبلدان الجنوب، بيد ان هذه المكانة لا تخولها موقعا استراتيجيا رياديا في غياب سياسة خارجية ودفاعية مشتركة تستثمر هذا الحضور الاقتصادي الفاعل.

لقد غدا من الواضح بطلان الرؤية الطوبائية التي انتشرت بعد نهاية الحرب الباردة وقوامها تناقض اهمية القوة العسكرية في ميزان القوة الاستراتيجية واستبدالها بالقدرات الاقتصادية والثقافية (ما عبرت عنه بعض الادبيات بالقوة الرخوة Soft Power).

فما نلمسه راهنا هو ميل العديد من القوى الدولية الصاعدة مثل روسيا والصين والهند الى تطوير قدراتها العسكرية، لا تنافسا مع الولايات المتحدة، وانما (لضمان صدقيتها السياسية) حسب عبارة العائدي.

فما بدأ يتشكل حاليا على الصعيد الاوروبي هو ضرورة بناء منظومة عسكرية لحماية وصيانة «القيم المدنية» التي تطرحها اوروبا بديلا من نظام الهيمنة العسكرية المستند ـ ككل نظام للهيمنة ـ الى مشروعية خلقية مجردة.

فالخيارات المطروحة اليوم على الاتحاد الاوروبي تتأرجح بين الاحتفاظ بالمشروع الاقليمي في صيغته الحالية الذي يقتضي استمرارية الاحتماء بالمظلة العسكرية الامريكية ومن ثم انعدام قدرة التجمع الاوروبي على البروز كقوة دولية مستقلة القرار او دمج طرف جديد ذي قدرات عسكرية يحتاج اقتصاديا الى الدعم الاوروبي كما هو شأن روسيا ذات الانتماء الاوروبي الخاص (تصور يدافع عنه بعض الاتجاهات الالمانية) او بناء سياسة دفاعية وعسكرية اقليمية بحجم المكاسب الاقتصادية.

وكما يقول الباحث الفرنسي رفائيل لوجييه (لنوفيل اوبسرفاتور. 17/4/2003): «ان عراق ما بعد صدام سيكون ارضية ملائمة لصراع بين تصورين مختلفين جذريا للنظام الدولي.. من جهة النموذج الاممي لانسانية تحكمها قيم علمانية تنزع للسلم الاجتماعي الذي تضمنه قوة لتسوية النزاعات. ومن جهة اخرى التصور الامريكي لتجمع من المستهلكين يسمح بدفع رأسمالية ليبرالية تحميها شرطة عالمية».