دردشات... ودروشات

TT

لا حاجة لانتظار 97 سنة اخرى لمعرفة نكتة القرن الحادي والعشرين، فقد أتت في أول عشرية فيه وتحديداً الاسبوع الماضي حين طلب بوش من الامم المتحدة ان تصدر قراراً لفك الحصار المفروض على العراق.

ومتى...؟ بعد ان وقعت كافة المدن العراقية على وثائق استسلام عسكرية.

ترى هل تأثر بنا الرئيس الاميركي بهذه السرعة، وصار يحتاج شرعاً قبل الدخول الى محلل غير سياسي.

وان لم يكن الامر كذلك ماذا يفعل في العراق ربع مليون جندي اميركي؟ هل هم محاصرون مسيو جورج...؟ وينتظرون من كبير نحاة الكوفة الفقير اليه تعالى كوفي عنان ان يفك حصارهم.

***

في أزمنة الحروب، والكوارث، والمجاعات تزدهر الدروشة، وتكثر الشائعات وقصص البهاليل والكرامات والاسرار والحكايات التي لا تصمد امام محاكمات العقل والمنطق والعلم باستثناء العلوم النفسية.

وكل هؤلاء الذين حكوا عن جنود نورانيين غير مرئييين، وعن احلام الانتصارات الوهمية، وعن القائد الذي كان يتجول ليلاً ليساعد المنكوبين، كانوا يعرفون انه لم يساعدهم في اوقات الرخاء ليجدوه عند الشدة، لكن هذا هو الانسان المغلوب على امره كلما واجهته مشكلة صعبة على العقل ادخلها في دهاليز النفس وحلها عبر اشارات المسارب الروحية التي تقوم بالتعويض عن العجز والمسكنة، ودوماً حين يواجه المظلوم قوة عاتية ولا يجد من ينصره يتجه الى القوة المطلقة القادرة وحدها على انصاف المساكين في اوقات الشدة.

ولا تستهينوا بقصص الدراويش فهي الذاكرة الشعبية المصفاة التي تستعين بالاله في السماء ضد انصاف الالهة على الارض وتنتقل من جيل الى آخر حتى بعد زوال مسبباتها الاولى. ولمن لا يصدق ما يجري في بغداد ليذهب الى القاهرة وسوف يشاهد ان مساكينها ما يزالون الى اليوم يكتبون شكاواهم ويضعونها في شباك ضريح الامام الشافعي، وقد نشأ هذا التقليد ايام ظلم المماليك ثم انقرضت دول مماليك البحرية، والبرجية وظل فقراء القاهرة ومساكينها يشتكون للامام الشافعي ويطلبون وساطته لينصفهم القوي العلي القدير الرحيم من الغزاة والسفلة والبلطجية.

***

منذ ان بدأت النعال تهبط عى رأس التمثال امتلأت شاشة الموبايلات والكومبيوترات بنكتة عادية مكررة فحواها ان الرئيس المخلوع مال على عزة الدوري في المخبأ وقال له: تراني خدعتهم هذا موتمثالي هذا تمثال الشبيه.

والنكتة ذاتها تكررت مع الصور الملطخة بالبصرة والموصل وكركوك ثم جاء شريط قناة أبو ظبي المثير المسجل يوم سقوط بغداد ليقلب المزاح الى جد ويجعل الاعلاميين والسياسيين والدبلوماسيين وجميع الفئات يسألون هل هو فعلاً الذي خطب في الاعظيمة أم الشبيه..؟

واذا كان الاحتفاظ بشبهاء وشبيهيين ممكناً وقت السلم، فهل هو على قدم المساواة في الامكانية اثناء الحصار والحروب...؟

فعلاً ماذا تفعل بالشبيهيين اثناء الحرب هل تحفظهم كالدجاج في صندوق السيارة الخلفي ام تضعهم في مخبأ أمين وتستدعيهم وقت الحاجة، وماذا لو بدأ بعضهم في أزمنة الاضطرابات يشتغل لحسابه كعادل امام في مسرحية «الزعيم».

والظاهر ان وظيفة الشبيه أسوأ مهنة في العالم فلو حدثت محاولة اغتيال، فان الرصاصة وقت العمل الرسمي تصل الى صدره، واذا بدأت النعال تهبط على التماثيل وتتطاير لتصيب الصور في مرحلة السقوط تنكر الاصل وقال هذه تماثيل وصور الشبيه، وحتى لو مات ودفن فإن هناك من سيستخرجه جثة من القبر ليفحص عينات DNA ليتأكد من انه صالح حسن وليس صدام حسين.

وبعد الذي حصل في العراق أشك ان يقبل احد بالقيام بتلك الوظيفة المشبوهة التي تعرض صاحبها نتيجة صدفة شكلية للكره والاحتقار ايام العز وتؤهل رأسه الحقيقي او رأس تمثاله ـ حسب النكة ـ بعد السقوط من السلطة لمصافحة ملايين النعال.

الفرق بين نشرة التاسعة، ونشرة الحادية عشرة ان عدد القتلى يزيد في الاخيرة، والفرق بين الفضائية العربية والاجنبية ان الثانية مهما كذبت لا تستطيع ان تتخلى عن المنطق ولا ان تستهين بالكامل بعقل مشاهدها انما تترك له المجال ليفهم على طريقته ان هناك اموراً لا يمكن في وقت الحرب الاقتراب منها.

في فضائياتنا تحول الجميع الى جنرالات بما فيهم كل الذين لم ينظفوا في حياتهم كعب بندقية. وهكذا عشنا ورأينا من يفهم في الحرب الشعبية اكثر من الفيتنامي الجنرال «جياب» ومن يفهم في ترتيب الجيوش وتحريكها اكثر من الالماني «مولتكه» اما الذين شرحوا خطط الصمود على الارض، وفيهم للأسف عسكريون محترفون فكانوا اكثر من مستشاري الرئيس العراقي المخلوع وهم بالمئات.

في الماضي كانوا يقولون عن الصحافي انه الذي يكتب اليوم ما سيعتذر عنه ويبرر عدم حدوثه غداً، وبعد حرب العراق صار الخبراء الاستراتيجيون هم عنوان الجهل المركب. أما طبقة المحللين التي تفتي في كل شيء فقد ارتكبت من العنتريات ما يكفينا لانتصارات سبعة قرون قادمة.

والغريب العجيب انهم عادوا جميعاً وبراءة الاطفال في أعينهم للدردشة المستريحة، وكأن شيئاً لم يحدث او كأن مئات والوف الاكاذيب «البرو باجندية» لم تقل على الهواء مباشرة امام ملايين المشاهدين.

هل نحن امة ضعيفة الذاكرة فعلاً أم ان فينا نسبة عالية من الذين لا يخجلون من جهلهم المطبق واكاذيبهم الوقحة المكشوفة...؟

ان فضائياتنا مثل معظم انظمتنا تكذب علنا وتصدق أكاذيبها، وبعد هذه المساخر والمهازل كلها لا تستغرب اذا رأيت ذات الوجوه تتحدث بحرارة وحماسة عن حسنات الاعلام العربي الحر، وتحليه بالأمانة والمصداقية.