«المستشار الشرقي»

TT

سافر فؤاد عجمي من جنوب لبنان الى اميركا للدراسة، وهو يحمل مرارة من اسمه، فاسم العائلة «عجمي» كان كنية لا اسما. وقد لقب جده الاكبر كذلك نسبة الى بلاد العجم التي جاء منها. وبعد اجيال لم يكن قد قبل كلبناني بعد! في الولايات المتحدة قبل فؤاد عجمي كأميركي.

وبعد تخرجه اصبح مساعدا في برنستون الى جانب فيليب حتي، شيخ المؤرخين. وهو الآن عميد كلية العلوم السياسية في «جونز هوبكنز» الى جانب اساتذة مثل فرانسيس فوكوياما، وهي الكلية التي كان عميدها من قبل وكيل وزارة الدفاع حاليا المستر وولفوتز.

لم تكن اهمية فؤاد عجمي في اكاديميته بقدر ما كانت في مقدرته الكتابية واسلوبه الادبي الخاص. ولذلك برز اسمه في كبرى المجلات الاميركية. ودخل عالم التلفزيون كمستشار. وفيما اتخذ البروفسور الاخر ادوارد سعيد جانب الدفاع عن العروبة وفلسطين، راح فؤاد عجمي يكتب عن الاميركيين كحلفاء وبدلاء. وطرح نفسه كشيعي يحمل مرارة الاسم والاضطهاد. ووضع مؤلفا شهيرا عن اختفاء الامام موسى الصدر في ليبيا والهموم الشيعية في لبنان.

وابتعد فؤاد عجمي عن «العرب الاميركيين» الذين رأوا فيه منشقا وخارجا على القضية، بينما ازداد التصاقا بالمجتمع الاميركي والنخبة الحاكمة. ورأت هذه النخبة في الاستاذ الجامعي «المستشار الشرقي» الذي تحلم به. واصبح عجمي الضيف الخاص في البيت الابيض والبنتاغون، كما كان شارل مالك في الخمسينات. ولم يعد يلتفت كثيرا او قليلا الى ما يكتب عنه في العالم العربي او يقال.

وكتبت قبل اربع سنوات مقالا اقارن فيه بين ادوارد سعيد وفؤاد عجمي، توقعت ان يثير غضبه او عتبه. لكنني تلقيت بعد ايام رسالة منه بالبريد، يقول فيها انه قرأ الرسالة على زوجته «ميشال» ، وانهما اتفقا على ان المقال هو اكثر ما اثر فيهما بين كل ما كتب. وكنت قد التقيت فؤاد وزوجته آخر مرة في منتصف الثمانينات، عندما دعينا الى الشاي والحلوى في منزلهما في الحي العربي من نيويورك.

بدأ ظهور فؤاد عجمي في اميركا، كاتبا يدافع عن القضايا العربية باسلوب مؤثر وخارق. وبتلك الصفة كنت، على الارجح، اول من قدمه الى القراء العرب في «المستقبل» الباريسية الصدور.

الا ان علاقتي البريدية به تعود الى ما قبل ذلك، يوم كان يستشهد بما نكتبه في «النهار» فؤاد مطر وانا، ويرسل الينا نسخاً من تلك المقالات. وكانت اخر مرة تحدثت فيها اليه لدى صدور كتابه الاخير «قصر الحلم العربي». ويروي الكتاب، باسلوبه المثير، سيرة غلاة القومية: الشاعر خليل حاوي الذي انتحر لدى دخول الاسرائيليين الى بيروت، وجورج انطونيوس صاحب «يقظة العرب»، وقصة مؤسس الحزب السوري القومي انطون سعادة.

حملت سماعة الهاتف واتصلت بالرجل الذي اعاد اكتشاف سحر المرحلة القومية، وهو المتهم بالخروج والانشقاق واللجوء الى المعسكر الاميركي، وقلت له: «هل هذه سير الرموز القومية ام سيرة شبابك؟»، واجاب «انها سيرة غير مباشرة لشبابي». لكن الامر مختلف بالنسبة الى فؤاد عجمي الذي يخاطب الاميركيين الان بالقول: «علينا ان نفعل كذا وعلينا ألا نفعل كذا. والامر مختلف بالنسبة الى فؤاد عجمي الذي يصغي اليه اهل البيت الابيض بكل اهتمام. والآن هناك من يقول ان فؤاد عجمي هو خلف هذا «التعاطف» الاميركي مع دور اساسي للشيعة في العراق، وانه هو الذي يرسم، او على الاقل يؤثر في رسم الخطة المستقبلية في العراق.

لا ادري الى اي مدى هذا الكلام صحيح. لكن فؤاد عجمي كان قد كتب مقالا في «فورين افيرز» قبل الحرب باشهر، يشرح رؤيته لواقع المنطقة ومستقبلها. ولا ادري إن كان الاكاديمي الذي توقف عن زيارة لبنان والدول العربية يقوم بدور سياسي. لكنني لا ازال اذكر انه لم يكن يفوته في اي لقاء الحديث عن مرارته من اسمه ولقب «عجمي». ولا ازال طبعا اذكر كتابه «الامام الغائب». وادرك الان ان فؤاد عجمي قطع رحلة طويلة ما بين القومية العربية وانبهاره بجورج انطونيوس، الفلسطيني الحالم بالاستقلال والوحدة، وما بين «حقائق المنطقة» و«حقوق الشيعة» في لبنان والعراق. لقد ذهب اكثر العرب بلاغة في اميركا باتجاهين متناقضين; ادوارد سعيد ذهب ضد «الاستشراق» ، وفؤاد عجمي اصبح «المستشار الشرقي» للامبراطورية.