كي لا يعود صدام حسين..

TT

وها قد بدأ طلاب الزعامة وأرباب الايديولوجيات الشمولية يفدون الى العراق زرافات ووحداناً، وكل على ليلاه يغني. قوميون ووطنيون ويساريون واسلاميون مختلفون، ولكنهم في ظل بيرق الشمولية يلتقون، ووهم الطريق الواحد يتفقون. فهذا منذ أن وطأت قدماه الأرض ينادي أن يكون العراق «دولة اسلامية» على النمط الايراني، وذاك يريدها اسلامية على النمط الطالباني، وأكثرهم انفتاحاً يريد لجنة حكماء من أهل الدين، تكون رقيباً على أداء النظام السياسي المرتقب، بحيث تحرم ما تراه حراماً في سلوكيات ذلك النظام، وتحلل ما تراه حلالاً، في ربط ايديولوجي مُحكم بين الدين والسياسة، وبحيث تكون الشمولية هي المآل في النهاية. ورغم أن قضية الحلال والحرام لا علاقة لها بعالم السياسة وممارستها، الا أن البعض لا يمكن أن يجد له موقعاً الا من خلالها، اذ بدونها ينتفي الواقع، وتتعرى العقول. لجنة من الحكماء على نمط ملوك افلاطون الفلاسفة، أو مجلس الملالي والفقهاء على النمط الايراني، أو أي من تلك المجالس التي تفترض أنها وحدها صاحبة الحكمة، والحقيقة المقدسة التي لا حقيقة بعدها ولا قبلها. مجالس يُفترض فيها أن تكون مالكة الحقيقة التي لا يمكن أن يملكها سواها، وهنا يكمن جوهر الشمولية، سواء كانت دينية أو قومية أو خلاف ذلك. فالشمولية في جوهرها، هي ادعاء ملكية الحق والحقيقة، وزعم معرفة النهج والطريقة التي لا طريقة غيرها، وهنا تكمن الجرثومة الشمولية على اختلاف ألوانها وأشكالها. ولكن، وبمثل ما أن الكفر ملة واحدة مهما اختلفت مذاهبه كما يقولون، فان الشمولية بدورها ملة واحدة مهما تعددت مذاهبها كما يمكن أن يُقال.

وبالاضافة الى هؤلاء من أصحاب الحلول الشمولية، هناك أفراد قد بدأوا يطرحون أنفسهم منقذين للعراق، فيؤججون الجماهير تارة بهذا الشعار أو ذاك، ويضربون على «الاحتلال» تارة أخرى، مستفيدين من ثقافة ذات حساسية شديدة تجاه الآخر، وهو ذات الاحتلال الذي لولاه لما رأوا العراق بقية حياتهم، ولجاء قصي من بعد صدام، وكلهم في الاستبداد صدام. من هذا الوضع يُمكن تبين مشكلة العراق القادمة، والخوف من أن تعود الشمولية، ويعود الطغيان مرة أخرى بلباس جديد، واسم جديد، ولكن الذات واحدة، فيعود الحال الى ذات الحال في النهاية. فالجماهير ما زالت أسيرة ثقافتها التقليدية في الايمان بالمنقذ المُنتظر، ونقص خبرة في ثقافة أخرى غير استبدادية، فهي لم تجرب في حياتها شيئاً خلاف الشمولية في كل مناحي حياتها، ومن هنا يأتي الخوف من أن يستغل أحدهم، حزباً كان أو تياراً أو فرداً، مثل هذا الوضع، فيعود صدام حسين من جديد، على اختلاف الوجوه التي قد يتخذها، فالعبرة ليست بالأسماء، ولكنها في السلوك والنتيجة. فاذا تعددت الأسباب والموت واحد، فقد تعددت المذاهب والشمولية واحدة.

العراق مجتمع فسيفسائي، تجد فيه كل الأعراق والمذاهب والتيارات، بالاضافة الى كل ما يمكن أن يتحدث عنه علم الاجتماع من قبلية وقبائل، طائفية وطوائف، طبقية وطبقات، فئوية وفئات. ليست المسألة علاقة بين شيعة وسنة، أو عرب وأكراد، ومسلمين ومسيحيين فقط. فالشيعة مذاهب، وكذلك السنة والأكراد وأتباع المسيح. وكل هؤلاء قبائل وعشائر وأفخاذ وبيوتات بينها من العلاقات، واللاعلاقات، الشيء الكثير. وكل هذه الفسيفسائية تجد تأثيرها في النهاية على الشخصية العراقية، بما قد يكون له أثر سلبي أو ايجابي، وفق التعامل مع هذه الشخصية، أو البيئة التي تجد نفسها فيها. وقد تلاعب النظام الشمولي السابق بكل هذه التركيبة المعقدة للمجتمع العراقي من أجل تثبيت أقدام النظام، فمزج بين العشائرية والحزبية، والطائفية والايديولوجيا، والعرقية والوطنية، وغير ذلك من أمور تركت أثرها على الوضع الاجتماعي العراقي الحالي، بما سيؤثر على طبيعة العلاقة بين هذه المكونات الاجتماعية في ظل النظام السياسي القادم، سواء بالسلب أو بالايجاب، حسب الظروف المحيطة والمكونة.

في مثل هذه التركة، ومثل هذه البيئة المثقلة بارث ماضوي بعيد وقريب من الاستبداد وغياب ثقافة التعدد والتسامح، من السهل جداً أن يُطل الاستبداد من جديد، وتعود الحلقة الى بدايتها، اذا لم تتم عملية تأسيس جديدة، تحاول أن تُلغي جذور الاستبداد وثقافته من الأذهان، قبل أن يكون ذلك عن طريق المؤسسة وبناء أجهزة نظام جديد، رغم أهمية ذلك. فالاستبداد والطغيان ثقافة معششة في العقل العام، قبل أن تكون ممارسة سياسية واجتماعية معينة، واستعداداً ذهنياً لتقبله، قبل أن يكون فعلاً معيناً من قبل هذا أو ذاك. لا يمكن أن يأتي مستبد على النمط الشرقي في بلد مثل بريطانيا أو سويسرا مثلاً، ليس لأن جيناتهم تختلف، فكلنا في الأصل بشر، ولا لمجرد أن المؤسسات الديموقراطية تمنع ذلك فقط، ولكن لأن الثقافة السياسية لمثل تلك الشعوب لا يمكن أن تتقبل فكرة المستبد والاستبداد، التي مُحيت من ثقافتهم منذ أن عانوا من الاستبداد والمستبدين في تاريخ لم يأسرهم في شبكته العنكبوتية، وأيام لم تعد عندهم الا مجرد ذكرى وتذكرة لمن يخشى.

لذلك، فان تُرك العراق لحاله هذه المرة، كما يردد البعض، يعني أن ثقافة الاستبداد ستفعل فعلها، ومعها وضع الاستبداد من جديد. ففي ظل هذه التركة الاجتماعية للنظام الشمولي السابق، وفي ظل سيادة ثقافة الاستبداد على حساب ثقافة التسامح والتعددية، وفي ظل وجود قوات أجنبية في مجتمع قد تشرب ثقافة رفض الآخر، أي آخر، فانه من السهل أن يعود «منقذ» من هذه الفئة أو تلك، هذا التيار أو ذاك. صدام حسين نفسه جاء منقذاً مع حزبه الطليعي، وسط تصفيق الجماهير وتأييدها، بمثل ما جاء قبله عارف وقاسم، فاذا المنقذ في النهاية ليس الا حلقة في سلسلة من الاستبداد والمستبدين، ومع ذلك لا تتعلم الجماهير، وهنا يكمن كل الخوف. لا تتعلم الجماهير لأن هناك من يغويها، وهناك من يضللها لأغراض ذاتية، وهناك من يتحدث باسمها متودداً، وهو من يوردها موارد الردى، فأصبحنا في التيه من الضائعين. واليوم هناك دعوات لأن تترك القوات «الغازية» العراق وشأنه، بعد أن أدت مهمتها في اسقاط النظام، وأن يقرر الشعب العراقي مصيره بنفسه. دعوة طيبة ولا شك، وحق تقرير المصير حق ثابت من حقوق الأفراد والجماعات، ولكن من يريدون أن يتم ذلك في هذا الظرف، وبعجلة لا مسوغ لها، أعتقد أنهم انما يرتكبون خطأً تاريخياً بحق الشعب العراقي من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فالنتيجة واحدة.

ربما كان لنا مواقف مختلفة من «المسألة العراقية» قبل الحرب، فننقسم الى مؤيدين ومعارضين، وكل له من الحجج ما يبرر بها موقفه، وكلها حجج مقبولة اذا كان المنطق هو المعيار. فالرفض للحرب، بعيداً عن الحساسيات الايدولوجية تجاه أي سلوك صادر عن الآخر الذي هو عدو بالضرورة، قد تكون مبرراته تجنب الفوضى المحلية والاقليمية التي قد تنتج عن حرب مثل هذه، بحيث يصبح الثمن المدفوع من أجل نزع الطاغية أكبر من الفائدة المتوخاة من هذا النزع، وخاصة في منطقة اعتادت السكون، وأدمنت الثبات مهما كان نوعه، وفق مثلنا الشعبي: «الله لا يغير علينا». والمؤيد للحرب قد تكون حجته أن أي ثمن يُدفع من أجل قلع الطاغية من جذوره، ليس الا ثمناً بخساً دراهم معدودة في ميزان دفع مسير التاريخ الى الأمام في هذه المنطقة من العالم، وهي التي ترفض أن تكون جزءاً من هذا العالم. ولكن الحرب قد وقعت، وبالتالي فان رفاه أن تكون مع الحرب أو ضدها قد انتهى، وعلينا التعامل مع الوقائع الجديدة، اذا كانت الفائدة هي الهدف بطبيعة الحال. الولايات المتحدة جاءت الى العراق، ضمن خطوة من خطوات تنفيذ استراتيجية عامة ترى الولايات المتحدة أن زمان تنفيذها قد حان، وخاصة بعد أحداث سبتمبر. مهمة المحلل الواقعي في هذه الحالة أن يستفيد من الوقائع الجديدة في تحقيق ما يراه من غاية. أن يقف موقف الشجب والرفض، دون اعتبار للوقائع التي تفرض نفسها، هو موقف انتحاري لن يقدم أو يؤخر، طالما أنه ليس هناك ما يدعمه من وقائع مقابلة على الأرض الصلبة. واذا كان الانتحار هو خيار البعض، فهذا حقهم، ولكن ليس من الحق أن يفرض مثل هذا الخيار على من تمسك بالحياة، رافضاً العيش بين الحفر.

والولايات المتحدة ستخرج من العراق عاجلاً أو آجلاً، فعهد الاستعمار التقليدي انتهى بنهاية الامبراطوريات التقليدية، ومرحلة الرأسمالية التقليدية الأولى. ربما أن أميركا تؤسس لامبراطورية جديدة، ولكنها ليست تقليدية على أية حال، بل هي جزء من سياق العولمة المتصاعدة، أو لنقل الرأسمالية المالية والمعلوماتية، ان صح التعبير. لن تترك أميركا العراق بطبيعة الحال الا بعد أن تضمن مصالحها هناك، فهي لم تأت فاعل خير لا يرجو الا رضا الرب وثوابه، بقدر ما أنها جاءت كقوة عظمى لها مصالح ورؤى استراتيجية معينة. ولكن، كل ما أتمناه هو أن لا ترحل أميركا الا وقد ثبتت وجود مؤسسات ديموقراطية فاعلة هناك، وأسست لنظام تعليمي وثقافي يكون بداية نهاية ثقافة الاستبداد وعقيدة الانتظار، التي استغلها كل طالب لزعامة رخيصة، أو ساع نحو سلطة سهلة المنال، وذلك كما فعلت في اليابان وكما فعلت في ألمانيا. نعم، لا أحد يُحب الاحتلال وتحكم الأجنبي في شؤونه، ولا أحد يحب الا أن يكون سيد نفسه، ولكن متى كنا أسياد أنفسنا؟ الاستبداد يولد أخلاق العبيد، والطغيان يُعلم امتهان الذات، فحق لنا أن نتعلم أخلاق الأحرار، حتى لو كان ذلك على حساب استقلال وكرامة وشرف، تبين في النهاية أنها وهم من أوهام كهوفنا الجميلة، منذ أن مرغها أبناء جلدتنا في الوحل والطين، قبل أن يفعلها الآخرون.