هل من الضروري أن يبقى العراق موحدا؟

TT

هناك حكمة تقليدية تنص على أن يبقى العراق كتلة واحدة. وواشنطن تشاطر ذلك الاعتقاد، وبالتالي فإن إدارة بوش تصر على عدم السماح بتمزيق العراق.

ولكن ماذا يحدث إذا فضّل بعض العراقيين أن يعيشوا بعيداً عن الآخرين الذين قتلوا أهاليهم؟

بكل تأكيد، فإن مجهوداتنا في إعادة تأهيل المنطقة كانت ستمضي في سلاسة فائقة إذا قدر للعراق أن يظل كياناً سعيداً موحداً بحدوده الحالية. ويفترض أن تهدف مجهوداتنا المبدئية الى تسهيل أواصر التعاون، في ما بين العراقيين، ولحماية الأقليات العرقية والطوائف الدينية في العراق. ولكننا أيضاً في حاجة الى التفكير مستقبلاً، وأن نفكر بصورة إبداعية خلاّقة إذا أردنا تجنب أن نساق عمياناً بواسطة قوى ليس بمقدورنا كبح جماحها.

ثم ماذا سيكون عليه الموقف، بوجود نصائحنا الجادة، إذا ظل العراقيون يقاومون فكرة أنهم سيكونون أفضل حالاً اقتصادياً وأكثر أمناً إذا ظلوا متحدين في كيان واحد؟ وماذا سيكون الحال إذا كان النموذج لمستقبل العراق هو يوغوسلافيا بعد الحرب الباردة، وليس اليابان أو ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؟

إن الدرس الأساسي الذي يمكن استخلاصه من قضية يوغوسلافيا هو أنه لم تكن هناك ضغوط دبلوماسية مطردة، أو رشاوى في شكل مساعدات، أو قوات لحفظ السلام بمقدورها أن تقهر رغبة المضطهدين في تحديد شكل استقلالهم وكينونتهم. وأن أية محاولات لإجبار هذا النوع من البشر للبقاء، مثل اطفال ابرياء يلعبون مع بعضهم بعضاً، هي ببساطة شديدة، مضيعة للزمن وإطالة لعمر الصراع الدائر.. ولمزيد من سفك الدماء.

إننا نسعى بشكل حثيث في متابعة النموذج الأوروبي، ومقاومة الإرادة الشعبية التي ينبغي أن ندعمها في المقام الأول.. وإذا لم تقف الولايات المتحدة مساندة لهذه الإرادة فمن عساه أن يفعل؟

هذه ليست مجادلة أو دعوة لإثارة نعرة الانفصال لدى الكرد والشيعة العراقيين. وعموماً، بإلقاء نظرة موضوعية هادفة، يمكن القول بأن محاسن إبقاء العراق موحداً تبدو عظيمة. وفي الوقت ذاته فإن العقبات العملية التي تواجه الدول الصغيرة التي تبرز من خضم مثل هذه الصراعات، تتراوح بين دويلة ذات حدود مغلقة مثل كردستان في الشمال، الى تهديدات الجبروت الديني للشيعة في الجنوب.

ولكن تقرير المصير ليس غالباً هو الذي يسود في شؤون الدول والأمم، إنما الذي يتحكم فعلاً هو الرغبة الجامحة. لقد بقيت كل من كوسوفو ومقدونيا والبوسنة مستقلة، تعتمد من أجل البقاء، على المعونات الخارجية وتجارة السوق السوداء والديون المتراكمة. إن اثنين من كل ثلاثة ولدوا تربطهم صلة الدم، غير أن ثلاثتهم يعانون من مشكلات مختلفة. وليس في كل هذا ما يهم أولئك الذين لا يمكنهم تحمل ما فرض عليهم من حدود رسمت بواسطة دبلوماسيين لا يعنيهم كثيرأً معرفة الإرادة الشعبية لأهالي المنطقة.

إننا نعيش في عصر يكثر فيه الانهيار والتردي وزوال الدول الزائفة، التي فرضت حدودها فرضاً تحكمياً في ما أعقب مؤتمر فرساي من صحوة نتجت عنها الحرب العالمية، التي أشعلها مجموعة من عديمي المعرفة، الذين لا يضارعون في جهلهم. لقد ظل العالم كله يعاني قرابة قرن من الزمان من جراء سخف وأطماع الدبلوماسيين الأوروبيين الذين أرادوا للعالم أن يتكيف وسياسات وزارات خارجيتهم.

وبما أنه من غير المعقول لنا قبول مثل هذا الإرث، فإننا نحن الأمريكيين نفترض بأن في مقدورنا حث وتشجيع الشعوب المغلوبة على أمرها، واحد تلو الآخر، والتي لم تتمكن من تأسيس دولة صالحة لها وبمحض إرادتها، أن تعمل على تقرير مصيرها. إن الشعوب كافة، شأنها شأن الأفراد، يجب أن تتعلم بالطريقة الأكثر مرارة.

عقب انهيار الدول الفاسدة، تجد العديد من الشعوب المحررة أنفسها في موقف لا يمكنها معه أن تزدهر بمفردها. فتحاول أن تؤسس لنفسها كيانات جديدة وقوية. ولكن لا يمكننا أن نقطع عليها تسلسل التغيير الذي اختارته وإجبارها على معرفة تقرير مصيرها قبل أن تتلمس مسار رغبتها. إن بني البشر لم يخلقوا هكذا.

وبينما نحاول مساعدة العراقيين لإعادة بناء بلادهم، ينبغي علينا ألا نألو جهداً في بذل كل عمل معقول لنؤكد لكل الأحزاب والطوائف المعنية محاسن أن يظلوا متكاتفين في كيان واحد. ولكن يتوجب علينا أيضاً حمايتهم من أي اعتداء أو خداع قد يقع عليهم.

حتى ونحن نهدف الى خلق عراق ديمقراطي يسود فيه حكم القانون، يجب أن نضع في اعتبارنا البدائل المناسبة، إذا أردنا تجنب أن نؤخذ على حين غرة من أي جهة كانت وفي أي زمان.

لقد عانى كرد العراق والشيعة والعديد من الأقليات العرقية الأخرى كثيراً من قسوة الاضطهاد. ولقد أتيح لنا بشكل موسع مشاهدة ردود فعل متباينة إزاء وصول القوات الأميركية الى العراق، فبينما رحب بنا الكرد بأكاليل الزهور، وقابلنا بعض الشيعة بالتهليل والتصفيق، وجدنا تحفظاً وأحياناً عداءً من بعض المتأثرين بإيران. ويعد السنة العرب المتمركزين في الوسط من أكثر المناصرين والمتحمسين لصدام برغم أن العديد منهم عانوا كثيراً تحت وطأة النظام السابق. إن الشعب العراقي بجميع طبقاته في حاجة الى التأقلم مع الواقع الجديد. غير أن واشنطن ربما يهمها أن يتأقلم الناس مع واقعيتها الخاصة بها.

يجب أن نثمن دور الكرد الذين نالوا احترام العالم. إنهم شعب عانى طويلاً من تشرذم وتفرقة نتيجة تقسيم لئيم لحدوده، ويبدو أنهم يعيشون مأساة لا حل لها، فضلاً عن سياسة استراتيحية متغطرسة فرضت عليهم. وفي الوقت الذي تريد فيه الولايات المتحدة قواعد لها في تركيا، ترفض الأخيرة مجرد فكرة إنشاء دولة كردية مستقلة. إن الجميع يصرون على أن يظل الكرد مشتتين وفقراء لا حول لهم.

وفي الوقت الذي خانتنا فيه تركيا، وقف الكرد بجانبنا مقاتلين ومساندين. وطيلة العقد الماضي الذي تميز بحكم ذاتي واقعي في شمال العراق، برهن الكرد على أن بمقدورهم إدارة دولة مدنية تحكم بالقانون. ويقول المتشائمون إن تأسيس دولة «كردستان الحرة» سيجعلها محاطة بالأعداء وتفتقر الى منفذ للبحر. ولكن عليهم أن يتذكروا بأن الكرد سيكون لهم حظ كبير من الثروة النفطية، والنفط من شأنه أن يشتري المنفذ، وأكثر من ذلك، فإن تغيير النظام في إيران ليس سوى مسألة وقت.

إن الوضع في العراق من التعقيد بمكان بحيث لا يمكن لأي مراقب أن يصفه، ومع ذلك ثمة اشياء قليلة واضحة تماماً. لقد برهنت الولايات المتحدة عبر تاريخها بأنها القوة الأكثر إيجابية للتغيير. والآن يجب علينا أن نعد أنفسنا للمساعدة في تشكيل تغييرات لاحقة لا قبل لنا بمنع حدوثها. ويتوجب علينا أيضاً التركيز على بناء مستقبل أفضل، ولكن ليس في الدفاع عن الإرث الأوروبي غير المحترم.

وفي ختام التجربة العراقية، لا ينبغي أن يكون هدفنا الأكثر أهمية هو صيانة مقدسات فرساي، وإنما هو ترقية حرية البشر وأمنهم، وليس مهماً أن يكون هناك عراق واحد أو عراقات.

* عسكري متقاعد ومؤلف كتاب «ما وراء الخوف: استراتيجية في عالم متقلب»