حزب الناس

TT

ينقسم العالم العربي السعيد الى قسمين: واحد لا يقر الاحزاب ولا يسمح بها ولا بظهورها ولا بنشوئها، وآخر يسمح بحزب واحد كل مهمته الغاء الاحزاب الاخرى وتدجين الافكار الاخرى وازدراؤها واحتقارها وتكفيرها والحكم عليها بالسجن او بالعزل، وهناك دول جاء نظامها باسم الناصرية والقومية العربية والحركة الاشتراكية، لكنها رفعت شعار من خالفها فهو خائن وعميل وبائد. والدول التي فتحت كوة مدروسة للتمثيل الشعبي، مثل مصر: نحتت زجاج الكوة بمهارة وعناية واسدلت عليها ستارة الروح المصرية الجميلة التي يمكن ان تغطي كل شيء. لكن عندما نعرف عدد النواب الناصريين في مجلس الشعب، نعرف ان الحياة البرلمانية تعاني من ضيق شديد، لانه لا يمكن للاسلاميين ان يكتسحوا انتخابات نقابة المحامين والمهندسين والاطباء، ثم يخفقون بالفوز بمقعد صغير في طنطا. او دمنهور. او الاسمو ايه.

برغم ذلك يصَّر العالم العربي على اجراء الانتخابات، وعلى انشاء البرلمانات، ويقيم لها مهرجانات واحتفالات وتهاني وخيماً ويذبح لها الخواريف ومع الخواريف ينحر شيئاً جميلا اسمه حق الاختيار. وقد ضم الرئيس العراقي الضائع حق الاختيار الى املاكه، في جملة ما ضم من املاك ودول، وجعله حقاً ماجداً مائة في المائة. واقترع نواب البرلمان العراقي مائة في المائة ضد مجيء المفتشين ثم اقترعوا مائة في المائة ضد ما اقترعوا عليه. لا اكثر ولا اقل. مائة في المائة.

الرئيس علي عبد الله صالح اعطى حق التمثيل الاختياري نفحة من نفحاته. فقد قرر دخول العقد الثالث في الحكم بنسبة 96% فقط من الاصوات. وأعتذر عن ذكر الفوارق والفواصل لانني لا اذكرها برغم اهمية ذلك في الحرص العربي على الدقة والحقائق والواقع واحترام رغبة الناس.

هكذا اذن وصلنا الى يوم يحمل الينا فيه الجنرال غارنر الديموقراطية طازجة من انتخابات فلوريدا وبالم بيتش حيث تأخر فرز الصناديق وكأنها ولاية في الهملايا وليس في الساحل الغربي. ترى هل اكتفينا بما حدث في نصف القرن الماضي؟ ان يكون رئيس البرلمان المصري لا يتغير، وان يكون البرلمان العراقي لا يتنفس، وان تكون رئاسة الحكومة في فلسطين شيئاً مستحدثاً لا يصدق الكثيرون انه حقا قد تحقق؟ ألم نتعب من الشعارات واليافطات والكلمات الطنانة الفارغة التي اصبحت مثل غابة من التشوه في الذاكرة العربية؟ اريد ان اقترح عليكم اقتراحاً بسيطاً ساذجاً لا تعقيد فيه ولا يافطات. فيه، فقط، بشر وناس: انسوا الديموقراطية الاميركية او البريطانية او الفرنسية. وتعالوا نفعل مثل الهند، او مثل مصر ايام حزب الوفد. تعالوا نؤسس احزاباً لا تلغي احداً ولا تخوِّن احداً ولا تعزل احداً، بل تدعو جميع الناس الى المشاركة في ادارة الحياة وبناء المستقبل وتقرير السياسة العامة، تعالوا نتفق ان المعارضة ممارسة راقية وليست جعيراً ولا شخيرا ولا نكايات ولا كلاماً ساقطاً، لكنها ايضا ليست كلابا مشردة ولا ضالة، تعالوا نقول ان هذا الوطن للخيرين من اهله وللثقاة وللفالحين ولكل من يستطيع ان يساهم في رسم ابتسامته وتخفيف آلامه ومعالجة مرضاه واسعاد شعبه وبسط الكفاية فيه . وكل ذلك لا يحتاج الى بيان ولا الى خطاب ولا الى كتاب. يحتاج الى صدق في مواجهة النفس وفي الاعتراف بحق الآخرين وفي الاقتناع بانه لا يمكن لفريق واحد في اي بلد في الارض ان يبني وطناً صحيحاً، حتى لو كان يملك، او يستملك مائة في المائة من الناس ومن حياتهم ومن قرارهم ومن سعادتهم.