النفط السعودي في مواجهة الهجمة الأمريكية

TT

تناولت الحلقتان الماضيتان من هذه السلسلة نجاح الحملة العسكرية الأمريكية ضد العراق، الأمر الذي يعطي مجموعة الصقور في واشنطون دافعا اضافيا لاستهداف السعودية على أساس مسؤوليتها ولو بصورة غير مباشرة عن أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وأن الاستهداف المتوقع سيتركز على ميدان النفط اضعافا للعلاقة بين البلدين، وترشح اربعة جوانب يمكن أن يستخدم العراق للتأثير فيها. وعلى رأس هذه تطوير القدرات النفطية العراقية لايجاد بديل للطاقة الانتاجية الفائضة لدى السعودية وكذلك منافستها في التوريد للسوق الأمريكية.

مقال اليوم يتناول الجانبين الآخرين وهما استغلال الوضع في العراق للضغط على السعودية بأمل فتح أبوابها خاصة في ميدان العمليات الأمامية للشركات الأجنبية والأمريكية تحديدا، وكذلك ممارسة ضغط آخر يتمثل في التأثير على الأسعار ومعدلات الانتاج وانعكاساتها على العائدات، التي تمثل العمود الفقري لأيرادات الدولة وأي تراجع في هذه الايرادات يلقي عبئا اضافيا على الادارة الاقتصادية، بل ويمكن أن تكون له تبعاته الأخرى.

تعتبر السعودية آخر عضو في أوبك قام بالسيطرة على صناعته النفطية بالكامل. ورغم اتباع أسلوب المشاركة وتعويض الشركات الأمريكية: «أكسون، موبيل، شيفرون وتكساكو» عن كامل حقوقها في شركة «أرامكو» التي أقامتها، الا انه مضت نحو ست سنوات اضافية حتى تم تحويل ملكية «أرامكو» بصورة قانونية ونهائية الى السعودية.

وعلى غير ما هو الحال مع شركات النفط الوطنية الأخرى في كل دول أوبك تقريبا التي عادت بصورة أو أخرى للاستعانة بالشركات الأجنبية، فان «أرامكو» لم تشعر بالحاجة الى الاستعانة بأي شراكة أجنبية خاصة في الميدانين الحيويين: توفير التقنية والاستثمارات اللازمة لابقاء الصناعة واقفة على رجليها وقادرة على المنافسة.

ويتضمن سجل «أرامكو» توسيعها لمجالات التنقيب عن النفط واستكشافه خارج المنطقة الشرقية ليغطي مناطق جديدة في وسط، غرب وجنوب السعودية، وبدء الانتاج في مناطق جديدة مثل الحوطة قرب الرياض وحقل الشيبة في منطقة الربع الخالي، الذي شكل العمل فيه تحديا هندسيا بسبب تلال الرمال في تلك المنطقة. على ان أهم انجاز يتمثل في الابقاء على طاقة انتاجية فائضة تصل في المتوسط الى مليوني برميل يوميا. والحال هكذا فإن السؤال الذي يفرض نفسه لماذا الحاجة الى شركات أجنبية؟

الاجابة السعودية انها تحتاج الى الشركات الأجنبية لتطوير مكامن الغاز وتحديدا النوع غير المصاحب، لكن لتلك الشركات رأي آخر كان يلخصه لوشيو نوتو، آخر مدير تنفيذي لشركة «موبيل» قبل اندماجها مع «أكسون» ان على الشركات النفطية أن تسعى بأي طريقة للعودة الى الحقول السعودية بسبب احتياطياتها الضخمة ورخص كلفة الانتاج فيها. ولهذا بادرت الشركات بالاستجابة الى الدعوة السعودية والدخول في مفاوضات بشأن استغلال احتياطيات الغاز، وذلك بأمل أن تكون لها موطئ قدم تنتقل منه الى النفط.

لكن أكثر من خمس سنوات من المفاوضات لم تثمر اتفاقا بعد، وأصبحت الشركات الأجنبية، التي لم تكن مقتنعة أساسا بجدوى الدخول في ميدان الغاز ويعتبر هذا الاختلاف في الأهداف أحد أسباب التعثر، تسرب تقارير تضع اللوم في جانب كبير منها على «أرامكو» التي تريد أن تلعب دورا رقابيا ومهيمنا. وهنا يمكن أن يدخل الوضع العراقي عامل ضغط فيما اذا انفتح الباب أمام الشركات الغربية، بل وتم تخصيص جزء من الصناعة كما تنادي بعض الأصوات الغربية. وهذا يمكن أن يضع «أرامكو» في موقف تحمل عبء مالي وفني اضافي لتطوير مجال الغاز أو فتح المجال أمام الشركات الأجنبية بشروط أكثر ملائمة لها بعد توفر بديل أمامها غير السعودية.

على ان عنصر الضغط الأكبر سيكون في كيفية التعامل مع قضايا الانتاج والأسعار، وهل يكون العراق حصان طروادة الذي تستخدمه واشنطون للاقتصاص من أوبك ان لم يكن العمل على أنهائها كليا من الوجود. على ان القضية العاجلة تتمثل في كيفية افساح مجال للأنتاج العراقي العائد الى الأسواق، حيث تصاعد انتاج الدول الأعضاء في أوبك وعلى رأسها السعودية كونها المنتج الأكبر الى قرابة عشرة ملايين برميل يوميا في بعض الأحيان. وفي سعيها لامتصاص قرابة مليوني برميل قررت أوبك في اجتماعها الأخير تقليص أنتاج الدول الأعضاء، وكان نصيب السعودية أن تتراجع حصتها الى 8.25 ملايين برميل، مرشحة الى الانخفاض مجددا بعد شهر عندما يتوقع للانتاج العراقي أن يتصاعد. واذا استمر الوضع الاقتصادي العالمي في حالة ضعف، فان المزيد من خفض الأنتاج سيكون مطلوبا للدفاع عن الأسعار، الأمر الذي يمكن أن يعود بحجم الانتاج السعودي الى ربما أقل من سبعة ملايين برميل يوميا، وهو ما بدأت به مطلع العام الماضي لفترة قصيرة، وما لم تشهده السعودية في واقع الأمر منذ عقد من الزمان تقريبا. وهنا نقطة الضعف اذ التجربة أوضحت ان السعودية تحتاج الى انتاج ثمانية ملايين برميل يوميا بسعر في حدود 22 دولارا للبرميل كي تتمكن من اصدار ميزانية متوازنة، ولهذا يفتح باب حجم الانتاج السعودي وسعر البرميل مجالا للضغط.

هذا السيناريو يقوم على كيفية تعامل واشنطون الجديد مع المنطقة وهل تقصر النظر الى مصالحها الامريكية مباشرة، أم تستكمل حالة التماهي الحاصلة حاليا بينها وبين المصلحة الاسرائيلية. وبسبب تأثير أحداث الحادي عشر من أيلول، فان الاستراتيجية القائمة على كسب الولايات المتحدة ودفعها الى التفريق بين مصالحها المباشرة وتلك المرتبطة باسرائيل ينتظرها مركب صعب أكثر مما عانت منه من قبل.

على ان الأهم من ذلك كيفية تطور الأوضاع داخل العراق سواء لجهة تحقيق قدر من الاستقرار السياسي والاجتماعي، ومدى القبول الذي ستحظى به السلطة الجديدة في الداخل وفي الاقليم والمجموعة الدولية. أحد المفارقات أن هذه السلطة قد تجد نفسها مطالبة بالتأكيد على هويتها الوطنية وأنها ليست تابعا لواشنطون، الأمر الذي يدفعها الى تبني سياسات لا تتفق بالضرورة مع الأهداف الأمريكية. وللمفارقة تبدو الصناعة النفطية العراقية بكل تراثها الفني والوطني وللمهنية التي تتمتع بها أكثر جهة مرشحة لقيادة الدور الاستقلالي في العراق الجديد.

وهكذا تبدو المنطقة مرشحة الى الدخول في لعبة سياسية طويلة أحد أمضى أسلحتها العامل النفطي، وهو ما يحتاج الى بصيرة نافذة للتعامل مع الواقع المتغير من ناحية وابقاء قدرة الصناعة النفطية على المنافسة عالية، وأهم من هذا تقليل الاعتماد على النفط في تدبير معاش الناس، كي لا يصبح انخفاض دولار واحد في سعر البرميل هما اقتصاديا وربما سياسيا، وهو الأمر المرشح للحدوث مع النمو السكاني الكبير الذي لا يلاحقه نمو اقتصادي بذات القدر.