تاريخ يجب ألا يهمله التاريخ

TT

كانت وقفة شعوب العالم ضد الهجوم الأمريكي على العراق، إدانة لكل عمل يتم خارج إطار الشرعية الدولية، وبغض النظر عن أي اعتبار آخر، اللهم إلا الجانب الإنساني الذي يرفض اللجوء إلى قوة يتضرر منها الأبرياء قبل الطغاة.

وتظل وقفتنا ضد الاحتلال الأمريكي مطالبة واعية ومتبصرة تتمسك بإعطاء منظمة الأمم المتحدة وحدها حق رعاية الشعب العراقي والأخذ بيده نحو غد أفضل، منبثق من اختياره الحر ومتميز بسيادته على أرضه وثرواته البشرية والمادية والتاريخية، وبحيث يكون له وحده الحق في محاسبة من يريد ومكافأة من يريد.

وربما كان من حق بعض العناصر العراقية التي دخلت إلى بغداد على متن الدبابات الأمريكية أن تتمسك بقوات الغزو لأنها تستمد قوتها منه، وسواء تعلق الأمر بفئات مسلحة أو بقيادات سياسية، لكن الحكم النهائي هو للشعب العراقي، بكل فئاته الوطنية وشرائحه الاجتماعية.

وقد بدأت أشعر بالغثيان وأنا أتابع بعض التدخلات التي تبثها الفضائيات لمن يقدمون أنفسهم كمعارضين لنظام الرئيس السابق صدام حسين أو كفارين من بطشه وطغيانه، وكذلك بعض الكتابات التي يرتكبها محسوبون على الثقافة العربية من سكان الحصان الخشبي.

ومن حق أي عراقي أن يعبر عن رأيه في النظام السابق وأن يلعن رئيسه بكل اللغات، لكن المرفوض هو أن يتطاول البعض على المتطوعين العرب الذين تركوا بلدانهم وضحوا بمستقبلهم وذهبوا إلى العراق ليموتوا على أرضه الطاهرة، خصوصاً ونحن لا نعرف على وجه التحديد من الذي قتلهم، وهل هو قصف العدو أم طعنات الصديق.

والمرفوض أيضا هو أن يزايد أشباه الرجال على الرجال، ويقدموا المواقف النبيلة للشهداء العرب على أنها كانت دعماً لنظام الرئيس صدام حسين، بما يبدو أحياناً وكأنه عقدة ذنب تريد محو مواقف الخزي والعار لبعض الذين فروا من مواجهة نظام حكم متسلط وهم اليوم يحاولون اكتساب عذرية جديدة، والبحث عن موطئ قدم في العراق الجديد، بالتمسح في ثياب القوة الجديدة.

ولقد كنت ممن وقفوا ضد الغزو الأمريكي، وما زلت أقول إنه عمل لا أخلاقي تم خارج إطار الشرعية الدولية، بالإضافة إلى أنه انطلاق لمرحلة الانفراد الإسرائيلي بالشرق الأوسط وللسيطرة الأمريكية المطلقة على النفط، بما يهدد التنمية الوطنية في كل الدول التي تعتمده كمصدر رئيس للدخل القومي، وأهداف أخرى ما زال بعضها حبيس الصدور والخزائن الحديدية، وكلها تستهدف وجودنا وحريتنا وإرادتنا.

وأريد اليوم أن أقول لتلك الأصوات النشاز بأننا لم نكن ممن التفوا حول الرئيس السابق ونحن نتشنج بهتافات.. بالروح بالدم نفديك يا صدام.

ولم نكن ممن يرتمون عليه لتقبيل يده أو ممن يدبجون المقالات وينظمون الأشعار تغزلاً في عبقريته، حتى إذا ما اختفى رحنا نتاجر بأرواح ضحاياه ونزايد على الشرفاء الذين هزتهم صرخة مواطنة عراقية هتفت في لوعة «أين أنتم يا عرب»؟.

ولسنا نحن من قام بتعذيب المناضلين العراقيين من مختلف الاتجاهات وسلط على الشعب كل ضروب القمع والبطش أو تواطأ مع التنكيل أو سكت عليه ثم فر إلى الخارج عندما رفض النظام مكافأته على صنيعه الإجرامي.

ولسنا الذين حرقوا المنازل ونهبوا المتاجر وأعطوا العالم كله فرصة التشفي في شعب عظيم، يراد له أن يحكمه من لا يملكون من أمر أنفسهم شيئاً.

ولم نكن نحن الذين دمرنا مؤسسات الشعب العراقي لكي نعطي عقود التعمير لأصهارنا وأبنائنا، ولم نكن نحن من تواطأ مع محترفين لسرقة آثار العراق التاريخية، لإخفاء آثار معينة ترتبط باليهود ولكي تباع أخرى للمافيا الدولية.

ولعلي أقول بأننا تحملنا الكثير من نظام صدام، حبا في العراق وفي شعب العراق، وبما لا يسمح لأحد بالمزايدة علينا وبمحاولة تعقيدنا، خصوصاً ممن كانوا يسيرون في ركاب الرئيس السابق ويباركون كل أعماله ويتسترون على كل ممارساته، في العراق وخارج العراق.

عملنا في منتصف السبعينيات، وإيمانا بدور العراق المحوري في النهضة العربية، لنضمن له الهدوء الذي يمكنه من القيام بدوره في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومن مواجهة عملية إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة والتي انطلقت بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.

ومن هنا كانت الوساطة الجزائرية بين إيران والعراق والتي توجت باتفاق الجزائر في 1975، مما جعلنا هدفا لحملات شرسة ما زلنا ندفع ثمنها إلى يومنا هذا.

وأذكر هنا أنني في مارس (آذار) من ذلك العام قضيت الليل ساهراً مع الزميل عبد الملك كركب، مدير الأمن الرئاسي الجزائري آنذاك، وعدد من الزملاء، أمام الفيللا رقم (8) بمنطقة نادي الصنوبر الساحلية على مشارف الجزائر، حيث كان يجتمع شاه إيران رضا بهلوي مع نائب الرئيس العراقي صدام حسين بعد أن قام الرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين بترتيب اللقاء، ثم انسحب ليترك لهما فرصة الحديث بصراحة وإيجاد الحلول للمشاكل المطروحة.

واختتم اللقاء مع بزوغ الفجر، بعد أن كانت أوصالنا قد تيبّست بفعل الهواء البارد، وعدت إلى العاصمة لألتحق مباشرة بمكتبي برئاسة الجمهورية، وقبل أن أشرب قهوتي دق جرس الهاتف الذي يربطني بالرئيس بومدين، الذي استدعاني إلى مكتبه.. وكان أول ما لاحظه وجهي الشاحب، وأجبته عن تساؤله بأن ذلك نتيجة للسهر والإرهاق، وكان رده هو بيت القصيد، فقد قال: «شعب العراق يستحق أن نتعب من أجل راحته».

بعد ذلك تحملنا الكثير من مراوغات رئيس الوفد العراقي في قمة الجبهة القومية للصمود والتصدي في طرابلس، في نوفمبر 1977، طه ياسين رمضان، الذي كان على اتصال هاتفي مستمر ببغداد لتلقي التعليمات، وبقيت في قصر الشعب لأنقل إلى الرئيس بو مدين أولا بأول نتائج الاتصالات. وكان ممن يشككون في النتائج الإيجابية، إن صدقت ذاكرتي، وزير الخارجية الجزائري آنذاك، عبد العزيز بوتفليقة، الذي تناسى اليوم، إكراماً للشعب العراقي، كل الإحباط الذي نتج عن تهرب بغداد من المساهمة في الجبهة بحجة أنها لم ترفض القرار الأممي 242، وما زلت أذكر تعليق الرئيس حافظ الأسد على الموقف العراقي، عندما ذكر بمثل سوري يقول: «من يريد التهرب من تزويج ابنته يرفع قيمة مهرها».

ولأن الرجال يظلون رجالاً ويفرقون بين العواطف الشخصية ومصالح الشعوب فقد كان بوتفليقة في طليعة من وقفوا ضد الغزو الأمريكي، وهذا بالإضافة إلى الدور الجزائري في بلورة الموقف الفرنسي الذي كان قاطرة للموقف الأوروبي الرافض للعدوان.

وجاءت نذر الحرب العراقية ـ الإيرانية وبذل الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد في زيارته إلى بغداد، في فبراير 1980، جهداً كبيراً لمحاولة تفادي الصدام مع الثورة الإيرانية الوليدة، وكانت قيادات عربية متحمسة لما سمي آنذاك.. «الميثاق القومي العراقي» بنقاطه الثماني، وكنا، في الوفد الجزائري المرافق للرئيس، نراه تخريباً للعمق الاستراتيجي الإسلامي للوطن العربي.

وسمعنا ما سمعناه من غمز ولمز من نفس الذين يلعنون اليوم النظام العراقي السابق، واتهمنا يومها بأننا نعمل ضد القومية العربية وبأننا انفصاليون، ولكننا، وعددا محدودا من الدول العربية، كنا نعرف الأثر المدمر لحرب بين بلدين متجاورين، خصوصا عندما تتحول إلى حرب بين قوميتين.

واندلعت الحرب وواصلنا جهودنا لإطفائها، رغم مزايدات الذين يعيبون علينا مواقفنا اليوم، وأسقطت طائرة وزيرنا للخارجية محمد بن يحيى وهو يقوم بالوساطة بين العراق، وإيران، وخسرنا كل طاقم وزارة الخارجية.

ولم ننبس ببنت شفة عن النيران الصديقة التي تعمدت إسقاط الطائرة، ودفنا شهداءنا في صمت، وواصلنا نضالنا ضد الحرب المأساوية.

ثم قام النظام العراقي بغزو الكويت، وكانت الجزائر في طليعة من أدانوا الخطيئة، ولكن ذلك لم يمنعنا من محاولة إيجاد حل سلمي يحول دون تدمير الطاقة العربية، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع أشقاء رأوا غير ذلك، ومنهم من وضعنا في قائمة ما سمي آنذاك: «دول الضد»، ولم يحل ذلك بيننا وبين محاولة محو آثار ما حدث في مطلع التسعينيات، بما في ذلك مأساة المفقودين، وسيأتي وقت للحديث عنها.

وكانت مشكلتنا أننا رفضنا دائماً سياسة المجاملات وتبويس اللحى، وقلنا ما نراه حقا وقمنا بما نراه عدلا، والتفاصيل كثيرة لا يتسع لها المجال، وكلها تعطينا اليوم الحق في أن نرفض التهريج السياسي الذي يقوم به البعض ممن يحاولون ادعاء الحكمة بأثر رجعي.

وقد تكون هذه السطور «فشة خلق»، ولكن هناك قضايا لا يمكن السكوت عنها، خصوصاً ان دماء عربية زكية روت أرض العراق إيماناً واحتساباً.

ولقد كنت ممن حذروا دائماً من الاختراقات التي أصابت الساحة العربية، لكنني أعترف بأنني لم أكن أتصور أنها وصلت إلى هذا الحد من العمق والاتساع.

ولم أكن أتصور أن غربة البعض يمكن أن يكون لها كل هذا الأثر المدمر على الانتماء، لكنني أردد: جزى الله الشدائد كل خير..

[email protected]