صورة الديكتاتور في شبابه.. وكهولته

TT

تصادف ان قابلت عددا من الديكتاتوريين العرب طوال العقود الاربعة الماضية، ويبدو أنه في الوقت الذي راحت الديمقراطية تترسخ في المجتمعات الاوربية كانت الديكتاتورية تأخذ اشكالا جديدة في العالم الشرقي، او شبه الشرقي. ولعل اهم ما في التحول الجديد هو الاستناد الى ايديولوجية او دوغما عقائدية. وبصرف النظر عن التاريخ القديم او الوسيط فان فكرة «الديكتاتور كمصلح» كانت تتماشى مع الثقافات السائدة في البلاد العربية بصفة خاصة، حتى ان مفكرا عظيما مثل الشيخ محمد عبده كان يتصور وجود «المستبد العادل». وفي ما بين الحربين العالميتين صارت الحركات السياسية تفرز قيادات ذات طابع كاريزمي غالبا ما تتخذ شكل البطولة. وهذه الحالة النفسية لدى الشعوب هي التي ساعدت الكثير من الطغاة على أن يتصدروا مراكز القيادة وأن ينتهوا بشعوبهم الى كوارث، مثل الحركة الفاشية في ايطاليا التي وصلت الى تقديس زعيم الحركة موسوليني، وكذلك الامر بالنسبة للحركة النازية التي قادها زعيم اكثر كاريزمية من الدوتشي هو ادولف هتلر. وفي نفس الفترة وربما قبل ذلك بقليل احتل الزعيم الروسي لينين مكانة شبه مقدسة، بعد قيام الثورة واقامة الاتحاد السوفياتي.

كل هذه نماذج كانت مطروحة امام الشعوب الاخرى، وبصفة خاصة في المنطقة العربية والاسلامية بشكل عام.ففي نفس الوقت تقريبا ظهر في تركيا التي كانت مركز الخلافة الاسلامية كمال اتاتورك، باعتباره زعيما قوميا وبطلا عظيما قاد الشعب التركي الى الاستقلال والتحديث الاوربي. وامتلأت هذه الحقبة بالزعماء الكبار مثل غاندي في الهند وماوتسي تونج في الصين، حتى اصبح هذا الشخص القائد، والمستبد العادل هو أمل الشعوب في هذه المناطق.وسواء كانت الايديولوجية السائدة يمينية ام يسارية فان الجماهير كانت في غالبيتها تنتظر هذا المخلص.

وفكرة المخلص فكرة قديمة وراسخة في الاساطير الدينية، مثل المهدي المنتظر او المسيح العائد او الامام المنتظر. وفي الثقافة الاسلامية بالذات انتشرت اقاويل تزعم أنه في كل مائة عام يبعث الله بامام يقود الامة الى الصلاح، اما المنظمات الدينية المختلفة وكانت غالبا في مجال التصوف او يشترك فيها التصوف مع الشؤون المدنية كان «الشيخ» او الامام واجب الطاعة، وكانت له كرامات وخوارق يعرفها او يسمع عنها الاتباع، وكان على التابع الا يناقش. وكثيرا ما كان الاتباع يعتقدون ان ظاهر فعل الشيخ او الامام غالبا يختلف عن باطنه مهما يكن الظاهر مخالفا للاعراف والدين. وبصرف النظر عن فكرة الطاعة كانت هناك فكرة العلم الخاص الذي يحجب عن الناس لأغراض خفية، وبالتالي فليس على المريد الا ان يمتثل ولا يناقش او يجادل في ما لا علم له به. وبالنسبة للحوادث التي جرت في المجتمع المصري على سبيل المثال تجسدت ظاهرة الزعيم او الامام في العديد من الاشخاص، وظهرت الحركات الفاشية التي قلدت المظاهر والمفاهيم الفاشية في بداية ثلاثينات القرن، مثل حركة «مصر الفتاة». وكان الزعيم يتمتع بهذه الثقة المطلقة التي عادة ما كان يتمتع بها الزعيم الفاشي في ايطاليا او الزعيم النازي في المانيا، واقتبست الكثير من المظاهر التي كان يتخذها هذا الزعيم او ذاك. وكذلك الامر بالنسبة للتنظيمات السياسية التي استندت الى الدين والتي كان الزعيم يصل الى حد التقديس، وفي كلتا الصورتين كانت الطاعة الكاملة مبدءا اساسيا.

على ان ظاهرة هذا الزعيم المطلق الصلاحية كانت تستند الى مشروع ثقافي، مثل مشروع الزعيم النازي ادولف هتلر والزعيم الفاشي جوزيبو موسوليني، وحتى على المستوى الشيوعي كانت تفسيرات الماركسية او تطويرها التي قام بها لينين في روسيا وستالين من بعده تصل الى درجة القداسة، وتنشأ حول هذه النصوص اجتهادات عديدة في التفسير والتأويل وعرفت في اثناء ذلك مجادلات عديدة حول الانحراف او التراجع، مثلما يحدث بالنسبة لأي نص مقدس. وكان لدى الحركات الدينية ايضا تفسير الزعيم الواجب الطاعة والتسليم للنصوص المقدسة.

في هذا الوقت كان الكثير من الدول في كل القارات، بما في ذلك القارة الاوربية نفسها ـ كما رأينا سلفا- لم يعرف الديمقراطية بمعناها الذي تجلى في بعض الدول الاوربية الاخرى، مثل بريطانيا على سبيل المثال او الولايات المتحدة او فرنسا، والواقع ان الديمقراطية لم تكن اختيارا انما كانت وليدة لظروف موضوعية على ارض الواقع، فاختراع الديمقراطية كان هو الوسيلة الوحيدة لتجنب الحرب الاهلية بين امراء الاقطاع المختلفين وحتى المبادئ الاولى عن المواثيق الديمقراطية جاءت كاتفاق حاسم لتجنب الحرب، مثلما حدث في نص الماجنا كارتا الشهير ليكف اذى ديكتاتور قديم في القرن الثالث عشر هو الملك جون. وحتى اذا رجعنا الى وراء اكثر من ذلك فان الديمقرطية اليونانية كانت ايضا لاسباب موضوعية بمجرد ان تزول تعود السلطة المطلقة مرة اخرى، كما حدث في التجربة الرومانية. والى ثلاثينات القرن العشرين كانت هناك دول كثيرة لم تمر بهذه الظروف الموضوعية التي من شأنها ان تخلق الظروف المواتية لنشوء الديمقراطية. وبالنسبة لمصر كانت قد عرفت شيئا من الديمقراطية بسبب الثورة الوطنية الشهيرة ثورة سنة 1919 ، التي ادت الى وضع دستور تحايلت السلطات الفعلية القائمة ان تضعف اهم بنوده، ومنها تخويل سلطة القصر الغاء البرلمان واسقاط الوزارات، فضلا عن الشروط الاخرى الخاصة باعتماد القوانين التشريعية التي تصدرها الهيئة التشريعية، بل اكثر من ذلك كانت اللجنة التي وضعت هذا الدستور ليست منتخبة بل تم اختيار اعضائها بواسطة السلطات، ومنها سلطة الملك والمندوب السامي بطبيعة الحال. وعاشت هذه التجربة العرجاء ثلاثة عقود تقريبا بين مد وجزر الى أن جاءت ثورة 23 يوليو فأسقطتها تماما. لذلك فان دول الخلافة الاسلامية على سبيل المثال لم تعرف الديمقراطية وكان من السهل ان تنتقل من الاستبداد القديم الى استبداد جديد مدعوم بالمشروع او الايديولوجية.

لم يسعدني الحظ لمعرفة الرئيس جمال عبد الناصر بشكل خاص، ولكنني التقيت به عدة مرات في الحفلات العامة التي كان يصافح فيها بعض الكتاب والصحافيين، ولكني قرأت محاولته تأليف رواية وهو في سن الصبا وكانت تتناول حركة المقاومة الشعبية التي قامت لقتال الجيش البريطاني في مدينة رشيد حيث نزل الاسطول سنة 1907، وكانت مصر قد بدأت عهد محمد علي وفشلت الحملة على مصر وعادت مندحرة الى بلادها. والذي لفت نظري ان البطل الذي رسمه هذا الصبي كان غير واثق بجماهير البلدة، ولذلك اضطر الى أن يقوم وحده بتنفيذ خطته ليلا للقضاء على هذا الجيش الغازي وبالفعل نجح في ذلك وصحت المدينة لترى هذا الحدث الجلل الغريب من دون ان تعرف من كان وراءه.

كان هذا هو نوع البطولة وكانت هذه طريقة التفكير في هذا الوقت المبكر. حقا ان الذي كتب من هذه الرواية هو تسع او عشر ورقات، ولكن الاستدلال بها ممكن على اي حال. وكان عبد الناصر معجبا برواية توفيق الحكيم «عودة الروح»، وبصفة خاصة المونولوج الذي يتحدث فيه أحد اشخاص الرواية عن حلمه بأن يصحو زعيم عظيم «مستبد عال» يعيد الروح الى مصر.

في هذه الارضية الثقافية نشأت الاجيال العربية التي تتابعت منذ الثلاثينات الى اليوم. وكانت فكرة الثورة باعتبارها امرا حتميا من بين الاسس، الثقافية السائدة، وكان الشاب الحالم بدور سياسي في مجتمعه يبني شخصيته على هذه الاسس، ويجاهد في المنظمات السياسية المتاحة ليصل الى موقع الصدارة.

على أن الخلفية الثقافية في العالم العربي كانت مساعدة ايضا على الرغم من اختلاف اشكال طموحات الديكتاتور الوليد او مشروع الديكتاتور، اذ كان الزعيم الخارق الذكاء قوي الارادة والقوي بشكل عام هو حلم هذه المشروعات، ولكن الى جانب ذلك تبرز الشخصية الدينية المقدسة ذات البعد السياسي. واذكر أنني قابلت زعيما عربيا في احدى الامسيات في صالون بيت او مكتب تابع له فأحسست من اللحظة الاولى بانني في حضرة شيخ طريقة يتحدث ويتصرف كما لو كان موكلا من جهة مقدسة وأن عليك الاستمتاع بطاعته والدخول في بركاته. اما الشكل الآخر فهو الفتوة او الاب الروحي في جماعة المافيا الذي ينتظر منك التوقير الكامل والسمع والطاعة.

والآن اتصور انني قابلت اكثر من اربع شخصيات من هذا النوع وكانوا جميعا يتوقعون منك الطاعة والرضا والانطواء تحت العباءة المقدسة والمختارة من العناية الالهية او النبذ الكامل.

الحق ان هذه الثقافة لم تزل قائمة وما زالت بالتالي تفرز او تنتج مشروعاتها البشرية.والمشكلة ان البنية الاجتماعية والاليات التي تشكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لم تتغير بعد ومازال مردودها هو هذا النوع من الشخصيات الانسانية: المستبد والقابل بالاستبداد.