إسبانيا والعراق

TT

سبق أن شرحت الدوافع التي أدت برئيس الحكومة الإسبانية خوصي مارية أثنار إلى أن يكتسب صداقة «القيصر». وبينت كيف أن ذلك الخيار الذي اتخذه في وقت مبكر، منذ أكثر من سنتين، كان مراهنة تكتنفها عدة حسابات دقيقة. وشرحت الظروف التي جعلت تلك المراهنة تتحول الى مقامرة، حينما اشتدت المعارضة في الشارع الإسباني لتحالف أثنار مع بوش، مشيرا إلى أن الأمر كان مرتبطا إلى حد بعيد بما إذا طالت أو قصرت عملية العراق.

الآن وقد اصطف أثنار مع المنتصرين، في وقت مناسب لقلب الأوراق قبيل انتخابات 25 مايو، يبدو أنه في وسعه أن يتنفس الصعداء. وهكذا هي أحوال السياسة. كانت المراهنة معادلة فيها سين في كلا شقيها. الآن وقد آلت الأمور في بغداد إلى ما هي عليه، يمكن لأثنار أن يقول لمواطنيه، الذين ارتاعوا من مغبة خياره: ألم أقل لكم؟

انخفض عدد معارضي الخيار الأميركي في إسبانيا من 91 في المائة الى 78 في المائة. وهذا الانخفاض الطفيف يتعلق فقط بالموقف إزاء الحرب، وهو ينبئ بانخفاض حرارة السجال السياسي، وقد يفيد أن الحزب الحاكم ربما يكون قد بدأ يخرج ـ انتخابيا ـ من عنق الزجاجة. ويهم أثنار بالتنقل إلى 22 مدينة في 14 يوما أثناء الحملة الانتخابية، لشرح الموقف الذي اتخذه أثناء الحرب.

وتثير حالة أثنار مشكلة عربية. فقد نشأ لدى البعض تصور مفاده أن أثنار قد خيب الظن، وكادوا يحاسبونه بجريرة «الخروج عن الإجماع العربي». وهذا ناتج عن سوء الترجمة التي نقع فيها كثيرا، كما حدث مع شيراك الذي كادوا يحسبونه زعيما عربيا. والصواب هو أن كلا من الرجلين كان يدافع عن مصلحة بلده، وهو مطالب بالحساب أمام ناخبيه وحدهم.

وحسابات أثنار قادته الى أن مصلحة بلده هي أن يكون في صف أميركا، لكي تتبوأ إسبانيا مكانة بين صناع القرار في العالم. شيء آخر إن كانت إسبانيا قادرة أم لا علي القيام بدور عالمي، فالمؤرخ هنري كامن كتب منذ أيام أن إسبانيا تمكنت في أزمة العراق من أن يكون لها صوت مسموع، ولكن كما حدث لها طيلة ثلاثة قرون، لم تتمكن، رغم تحركها النشيط في تاريخ كل من أوربا وأميركا، من أن يكون لها دور واضح، لذا لم تكن إسبانيا تاريخيا إمبراطورية ناجحة.

لقد تعامل البعض عندنا مع سياسة أثنار وكأن للرجل التزاما مع العالم العربي، يمنعه من أن يكون مؤيدا للحرب. إن حسابات ومواقف إسبانيا نابعة من موقعها ضمن دول الشمال. وقد أنهت اندماجها في أوربا حينما أقدمت حكومة ديموقراطية منتخبة على الاعتراف بإسرائيل. وكانت حكومة فرانكو قبل ذلك قد مهدت للتحرر من الارتباط العربي بتنويع مصادر التزود بالنفط. وقامت حكومة اشتراكية بإلحاق إسبانيا بالسوق الأوربية المشتركة وبالحلف الأطلسي.

إن الهاجس الأوربي يسكن الوجدان الإسباني بعمق، وعبر أورطيغا إي غاسيط عن ذلك بقوله إنه إذا كانت إسبانيا هي المشكلة فأوربا هي الحل. وإسبانيا اليوم بكل جلاء قوة اوربية، ومن هذا الموقع تنظر إلى نفسها وإلى العالم.

إن سوء التفاهم الحادث من طرف واحد، بشأن مواقف إسبانيا من المسائل العربية، هو إذن ناتج عن قراءة عربية خاطئة للموقف الإسباني، وعن نوستالجيا «الأندلس» التي تتضمنها الهيروغليفيا العربية التي لا تستوعب لغة الواقع.

وباختصار فإن أثنار كان عليه أن يكون تابعا لواشنطن أو لمحور باريس برلين، فاختار الموقف الأول. ومن بين 78 في المائة الذين ما زالوا عند رأيهم في معارضة شن تلك الحرب، هناك 43 في المائة يقرون بأنه كانت لها نتائج إيجابية. وبينما يرى 54 في المائة أن دور أثنار أثناء الحرب كان سلبيا، فإن 42 في المائة يرون أن زعيم المعارضة كان بدوره سلبيا.

بماذا يمكن أن يتباهى أثنار في الوقت الراهن؟ أولا بأن إسبانيا مثل بريطانيا في صف المنتصرين، وأن معارضة الحرب قد باءت بالفشل سواء تلك التي تم التعبير عنها في الشارع أو من لدن حكومات، بما فيها فرنسا وروسيا وألمانيا، وأن 18 من بين 25 دولة أوربية تساند واشنطن.

والأهم من ذلك أن إسبانيا شريكة في قطف ثمار الانتصار، ففي أسبوع واحد تولت إسبانيا، بتكليف من واشنطن، ثلاث مبادرات تخص الشرق الأوسط، بوأتها مكان الصدارة في الحقل الدولي، وهي فتح الخط مع دمشق، والاستعداد لتحريك «خريطة الطريق»، واجتماع الأطراف العراقية في مدريد قبيل اجتماعها في بغداد، أي أن مدريد أخذت فعلا تلعب في نادي الكبار كما اشتهى أثنار. وفضلا عن ذلك فإنها طامعة في أن تتولي بعض الشركات الإسبانية بعض الصفقات في إطار إعادة إعمار العراق.

وفي بداية أبريل، وقبل أن تحسم عملية العراق بدخول المارينز الى بغداد، كان وفد من ثلاثة كتاب عامين لثلاث وزارات إسبانية برئاسة كاصاريس الكاتب العام للخارجية، قد طاروا إلى واشنطن، حاملين ملفات مدروسة تتعلق بعروض بشأن ما في وسع الشركات الإسبانية أن تنهض به من أعمال في الأوراش التي ستفتح.

وهكذا يكون أثنار قد ربح الحرب من دون أن يحارب. فقد منعته المعارضة القوية التي شهدها الشارع الإسباني من أن يكون ثالث ثلاثة في ما سمي بقوات التحالف التي تحركت في الميدان، إذ اجتاحت شوارع كل من مدريد وبرشلونة وإشبيلية وغيرها مظاهرات صاخبة، تجددت طيلة الأسابيع التي سبقت وتخللت الحرب على العراق

ووجدها الحزب الاشتراكي المعارض فرصة للتشنيع بالحكومة، وأوقعها في مأزق حقيقي بالبرلمان. وفيما كان أثنار يريد أن تشارك قواته في «تحرير العراق»، اكتفى نتيجة السيل الجارف الذي غمر الشارع الإسباني، بإرسال 1100 مقاتل (تقرر يوم الثلاثاء رفع العدد الى 1500) على متن ثلاث مدرعات، وست طائرات ف/18 لنقل معونة إنسانية.

وخاض أثنار الحرب على الواجهة السياسية بالدفاع المستميت عن وجهات نظر واشنطن في الاجتماعات الأوربية، في الاتحاد الأوربي والحلف الأطلسي، كما شارك في اجتماع جزر الأثورريس، الذي سبق تحديد ساعة الصفر، وتصدت إسبانيا بشراسة لمواقف فرنسا.

وفي مواجهة الخطاب المتشدد الذي تميز به أثنار ووزيرة خارجيته في الأمم المتحدة، وفي كل اجتماع دولي حضرته، تنامى في الشارع الاسباني رفض الحرب، وصعدت نسبة المعارضين من 64 في المائة و74 في المائة إلى 91 في المائة، وهي أعلى نسبة للمعارضة سجلت في الدول الأوربية.

وكان الشارع الاسباني ضد الحرب لسبب مبدئي، وكان على الخصوص ضد مشاركة إسبانيا، وكان لا بد لأثنار أن يأخذ ذلك في الحسبان، وأن يستمر في مراهنته على ترضية أميركا، ولكن ليس إلى حد تحمل مسؤولية إعلان الحرب، باعتبار أن 74 في المائة أعربوا عن معارضتهم الحرب حتى ولو صدر قرار أممي بشأنها.

ومن جراء وقوف الحزب الشعبي ذلك الموقف المعزول في الشارع، تعرض في وقت من الأوقات، إلى أن يكون مصيره في مهب الرياح، والبلاد مقبلة على انتخابات.

واستثمر الحزب المعارض ذلك الظرف إلى أقصى حد، وتعرضت مقرات الحزب الشعبي إلى 325 اعتداء، وشعر زعماء محليون للحزب الحاكم بأن أوضاعهم مهزوزة. وانسحب عدد قليل منهم من مناصب قيادية اعتبارا للمشاعر الجارفة التي سادت الرأي العام. وشعر قياديوه المركزيون بأن مصير الحزب في خطر، خاصة أن الانتخابات المحلية على الأبواب، وفي العام المقبل سينسحب أثنار من قيادة الحزب ليتفرغ لمنصب دولي على الأرجح، مما يعني أن على الحزب أن يدبر خليفة.

أتصور أن الورطة قد تضاءلت الآن. وكما قال ثاباتيرو نفسه، (زعيم الحزب الاشتراكي) فإن الناخب حينما يصوت لن يكون في حسبانه فقط الموقف السياسي إزاء الحرب على العراق، بل نتيجة السياسة الاقتصادية وطريقة تدبير الشأن العام. وهو يقصد بلا شك أن نتائج حكومة الحزب الشعبي سلبية، ويتوقع أن الناخبين سيعاقبون الحزب الحاكم بسببها، وهذا أمر فيه نظر.

وسيكون على الحزب الاشتراكي أن يعدل خطابه لكي لا ينزلق إلى موقف يساري متطرف، يضعه في خانة الشيوعيين، لكن ثاباتيرو ما زال يرى أن تبرم الرأي العام من الحرب يمكن أن تسعفه انتخابيا، وهو متمسك بخطاب هجومي حاد. فقد قال في حديث مسهب أن تسعة من كل عشرة من الإسبانيين عارضوا الحرب وفي نفس الوقت طالبوا بتحسين التدبير الديموقراطي للبلاد، باعتبار أن المواطن يريد أن يكون صوته مسموعا، وأن تعمل المؤسسات التمثيلية علي نحو يؤمن مشاركة أكثر، وأن تكون وسائل الإعلام العمومية أكثر انفتاحا. وأخيرا ـ يقول ـ إن الإسبانيين يريدون نظاما دوليا أكثر عدالة لا تكون فيه الكلمة فقط لمن يمتلك أكبر عدد من طائرات ب/.52