العلاقات السودانية ـ المصرية .. من التفكيك إلى التدعيم

TT

في زيارة لي للقاهرة في أواخر الخمسينات بعيد استقلال السودان، وكانت وقتها العلاقات السودانية ـ المصرية مشحونة بالتوترات، قال لي الأديب الكبير والصحفي المتميز احسان عبد القدوس، وأسبوعية روز اليوسف في قمة مجدها: انظر إلى هذا الكم من الصحف السودانية، إنها تهاجمني لمجرد انني ادافع عن العلاقات الأزلية بين البلدين، هل تريدون الآن مناقشة ومراجعة هذه العلاقات؟.. بصراحة ليس لدي ما أقوله، إنها علاقة انطبعت في قلوبنا مثل الايمان، وظللنا منذ نعومة اظفارنا نردد مصر والسودان اخوان وعلاقاتهما أزلية..

بهذه الكلمات البسيطة والعميقة الدلالة صور احسان معنى أزلية العلاقة بين الشعبين، وهي فعلا لا تحتاج إلى مناقشة ولكن للأسف ان الحكام في البلدين يخضعون هذه العلاقة في كثير من الأحيان إلى اختلاف أمزجتهم وتباين رؤيتهم للمسائل السياسية، التي في بعض الأوقات لا تكون ذات صلة في إطار البلدين، وحتماً ليس هناك ما يمكن أن ينسب إلى ما يوصف بتعارض بين مصالح الشعبين، وبالتالي يسمحون لأنفسهم بالتصرف في هذه العلاقة ليس بما يعطل ازدهارها وإنما بما يلحق بها اضراراً لا يمكن تعويضها.

وعلى سبيل المثال خلال ما يزيد على عقد كامل من الزمان، كان الفتور يشوب العلاقات بين الحكومتين، والمصالح المشتركة شهدت تراجعاً لم تشهد مثله طوال قرن بأسره، وإذا جاز لنا ان نرصد حجم الاضرار لتعذر علينا تقديرها، لأنها لم تترك جانبا في الحياة الا ومسته بما يصعب تقديره أو استدراكه. ونحن هنا لا نريد ان ننكأ الجراح ونبحث عن اخطاء الحكام هنا أو هناك، طالما ان الرئيس حسني مبارك زار السودان الأسبوع الماضي لأول مرة منذ ثلاثة عشر عاما، وان القيادتين وعدتا بالعودة إلى ما كان قائما، سواء في مجال التعليم المصري الذي كان متدرجاً من الابتدائي وإلى الجامعة، أو في مجالات التكامل الزراعي والتجاري والاقتصادي والثقافي إجمالاً، فضلاً عن ما تفضل بالإعلان عنه من أن مصر ستقيم عدداً من المدارس في جنوب السودان، وكذلك فتح فرع لجامعة القاهرة هناك، مع استمرار استقبال القاهرة لعدد كبير من الطلاب الجنوبيين للدراسة في الجامعات والمعاهد المصرية.

وفي الجانب الآخر فإن السودان سوف يمد مصر بالحبوب واللحوم والزيوت، وباختصار فإن البلدين سيتبادلان السلع بما يحقق التكامل المنشود فضلاً عن امكانية استزراع ملايين الافدنة من الاراضي السودانية لتحقيق الاكتفاء الذاتي مما يعزز الأمن الغذائي للشعبين.

لا ريب في ان هناك دراسات كثيرة وشاملة لكل المجالات وضعت منذ عدة عقود لو نفذت لكان الحال غير الحال. ولكنها للأسف خضعت للأهواء السياسية، والآن نسمع ان ارادة التنفيذ قوية والعزم صادق والتنفيذ آت، ومع احترامنا لما نسمع فإننا نتذكر ان كل ما قيل اثناء زيارة الرئيس مبارك وبعدها سمعنا قبله على زمن عبد الناصر والسادات، وكذلك على عهد ازهري وعبود ونميري والصادق، ولكننا للأسف لم نلمس الا تنفيذ أقل القليل، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، وقد سمعنا المسؤولين في البلدين يشيرون إلى أن برلمان وادي النيل سيعود، وان لجان التكامل قد بعثت من جديد وما الى ذلك، وفي كل ما قيل عودة إلى ما كان قائماً ومجمداً..

إذن ما نريده حقاً، هو كيف نضمن الاستمرارية لهذه الآليات ولنجاح تلك المشروعات دون ان تتجمد مرة اخرى لذات الأسباب، التي يمكن أن تتكرر مرة اخرى سواء بتغير الأنظمة أو الأمزجة؟

ان أول المطلوب هو ان ينظر الى هذه العلاقة نظرة استراتيجية من منظور العلاقة «الأزلية» وهذه النظرة تقتضي ان لا يجير هذا التطور وكأنه لصالح النظام القائم في السودان وحزبه على حساب المعارضة السودانية او ادارة الظهر لها، لأن مثل هذه النظرة هي التي دائما ما تنقل العلاقة من شموليتها الى جزئيات وأنماط طارئة تتلون وتتغير بحكم المتغيرات التي تنشأ في السودان، وبالتالي فإن المطلوب من مصر هو ان تحافظ على العلاقات المتوازنة مع الجميع، ومن الحكومة عدم محاولة استثمار المستجدات في العلاقة مع مصر بهدف شطب الآخرين من علاقة مصر بهم. وحسناً فعل احد المسؤولين المصريين عندما قال إن المستجدات في العلاقات مع الحكومة السودانية لن تكون على حساب علاقات مصر مع القوى المعارضة للنظام، والمأمول ان تتبع الأفعال الأقوال وان تتفهم الحكومة السودانية مسرى العلاقات الأزلية باعتباره يسمو على العلاقات الآنية للحكومات. وكذلك ينبغي على المعارضة السودانية بكل أطيافها ان تدرك، بعيداً عن النظرات الحزبية الظرفية، ان كل ما يحقق مصالح الشعبين يدخل في صميم الاهداف الاستراتيجية ولا يتناقض معها سواء تحققت عن طريق هذه الجهة أو تلك.

وإذا عدنا بالذاكرة إلى سبعينات القرن الماضي، لوجدنا ان برلمان وادي النيل كان قد تأسس ومشروعات التكامل قد درست وسميت، وان كل ما نريد العودة إليه كان قائماً، باستثناء مشروعات التعليم، التي وئدت في هذا العهد، ولكن بعد انتفاضة ابريل 1985، ألغى النظام الديمقراطي الذي اعقب نظام نميري اتفاقية الدفاع المشترك، وعطل وجمد كل ما كان قد تأسس في عهد نميري، وقيل إن كل ما تقدم كان خدمة لنظام نميري العسكري، وان مصر وقتها كانت تشيح بوجهها عن المعارضة. وهكذا بعد الانتفاضة التي أطاحت بنميري شهدت العلاقات السودانية ـ المصرية توتراً شديداً، خاصة ان نميري استجار بعد خلعه بمصر فآوته بينما المعارضة لم تنس لمصر تجاهلها لما استتب لها الحكم!.

ان على السودانيين والمصريين معاً، أن يستخلصوا الدروس والعبر من كل المحطات التي توقفت فيها العلاقات بين البلدين، وتراجعت فيها مصالح الشعبين منذ نصف قرن أو يزيد، ولعل في التجربة التي اسلفنا ذكرها ما يعين الاشقاء في مصر على ضرورة المحافظة على التوازنات المطلوبة في العلاقات الشعبية والرسمية، حتى لا يعاقبوا شعب السودان بما يصدر عن الحكام من اخطاء أو خطايا، وهذا قد حدث في الفترة الماضية. وعلى الحكومة السودانية ان لا تحاول استثمار عودة العلاقات في توظيفها للنيل من خصومها في المعارضة، حتى لا تجير العلاقات المصرية ـ السودانية طرفاً في النزاعات الحزبية والسياسية الداخلية.

ولعل من أكبر الاخطاء التي ألحقت ضرراً فادحاً بعلاقات الشعبين، ان كل دروب التواصل تركت لتمر عبر الحكومتين، وقد آن الأوان لاستنهاض مسالك العلاقات الشعبية عبر تواصل مؤسسات المجتمع المدني في القطرين، وهي مؤسسات لا بد أن تكون فاعلة في تحريك وتمتين العلائق بين الشعبين، حتى تكون سياجاً منيعاً ليسد الطريق أمام انزلاقات بعض الحكام هنا أو هناك، وفوق هذا وذاك تكون داعماً حقيقياً للتواصل الأزلي الذي لا يحتاج إلى مناقشة أو مراجعة، كما قال احسان عبد القدوس. واتساقاً مع هذا القول، استرعت انتباهي احصائية أوردها مدير وكالة السودان للأنباء في ندوة عقدت في الخرطوم عن العلاقات بين البلدين وجاء فيها: ان السودانيين المقيمين في مصر يبلغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، ويبلغ عدد افراد الأسر المشتركة في مناطق النوبة المتجاورة بين مصر والسودان اربعة ملايين نسمة نصفهم في مصر والنصف الآخر في السودان، وان عدد الابناء المنتمين لآباء مصريين وامهات سودانيات يبلغ مليون انسان، وهناك سودانيون من اصول مصرية يقدر عددهم بثلاثة ملايين. وخلص من الاحصائية التي أوردها حسب ما نقلته «الأهرام» الى ان حصيلة هذه الأرقام تبلغ 10 ملايين نسمة مع قابلية للزيادة بنسبة 20 في المائة يمثلون نسبة كبيرة من الشعبين المصري والسوداني.

وأياً كان الرأي في دقة هذه الاحصائية فإنها بلا شك تعتبر أقوى دليل على صحة عمق العلاقات وأزليتها مما يستوجب اهتماماً أكبر بخصوصيتها وترقيتها الى ما تستحق ان تصل إليه من المراقي المنشودة، وعلى المثقفين والمفكرين والسياسيين وكل منظمات المجتمع المدني ان تسعى لوضع هذه العلاقة في إطارها السليم، واعتقد ان على الاخوة المصريين يقع العبء في القيام بالدور الأكبر.