هل «بعث العراق» قادر على العيش بعد صدام؟

TT

شعرت بالخوف والحزن معا وانا اسمع افواها عراقية تنطلق بأعلى حناجرها داعية الى تحريم ومنع حزب «البعث العراقي».

خوفي وحزني على ديمقراطية منشودة تبدأ عهدها بسيف المنع والتحريم لحرية العمل السياسي. واقول لهؤلاء «الديمقراطيين» ان الدساتير والقوانين واجراءات القمع عجزت عن القضاء على احزاب وحركات عراقية مختلفة. عجز صدام، مثلا، عن استئصال حزب الدعوة والحزب الشيوعي والاحزاب الكردية. فقد ظلت تتحرك سرا على مدى 35 سنة من حكمه المشؤوم.

الحرية لا تتجزأ. الديمقراطية لا تقبل الاستثناء. الديمقراطية مؤسسات. والحزب الديمقراطي سواء كان مواليا او معارضا مؤسسة من صميم مؤسسات الدولة الديمقراطية، بل ها هي الاحزاب المتطرفة يمينا ويسارا تتمتع بحرية العمل السياسي في الديمقراطيات الغربية، طالما انها ملتزمة بالوسائل السلمية. هناك حزب شيوعي في اميركا، وحزب تروتسكي في بريطانيا. هناك حزب عنصري شوفيني في فرنسا وهولندا والنمسا. بل هناك حزب نازي في المانيا.

لكن اي «بعث»؟ وهل هناك حزب للبعث مؤهل للحياة وقادر على العيش في عراق بلا صدام؟

قبل ان اجيب بـ«نعم» ببساطة متناهية في الصراحة، اقول ان البعث العراقي تعرض الى عملية خطف مبكرة انتهت باستقراره في قبضة «حثالة من القتلة» بلا اخلاق، وبلا ضمير، وبلا رحمة. وانا اسف لاستخدام هذا التوصيف، لكنه معبر ادق تعبير عن الواقع الذي كان.

اعود مرارا وتكرارا الى تذكير الذين يدمغون البعث بالفاشية بأن هذا الحزب القومي ولد ولادة ديمقراطية رائعة، ونشأ بالحوار بين الاساتذة المثقفين والطلبة. وكان هؤلاء المثقفون متأثرين بديمقراطية الجيل القومي الاول الذي ناضل ضد الاستعمارين التركي والاوروبي.

حدث الانحراف عن الديمقراطية عندما انفتح هؤلاء المثقفون وطلبتهم على الاشتراكية اللينينية ـ الستالينية اللاديمقراطية. وكان الهدف تطعيم القومية العربية بنظرية للعدالة الاجتماعية ـ الاقتصادية.

اضعف رهان البعث على ارادأ انواع الاشتراكية روح الحزب الديمقراطية. وتعرض كحزب يساري الى القمع والاضطهاد في ديمقراطية نوري السعيد وعبد الاله المشوهة في العراق. وانتهت الديمقراطية الحزبية في سورية بالغاء الاحزاب والديمقراطية في الوحدة الناصرية.

ودخل البعث في العراق الجمهوري بعد انقلاب 1958 في سباق على السلطة مع العسكر والناصريين والشيوعيين. ولم يكن هذا السباق ديمقراطيا وسلميا، فقد اتسم في الستينات بالمؤامرة وبدموية القتل والسحل والانقلاب والاغتيال. وغادر الحزب المثقفون الى العزلة السياسية او الى الناصرية، بعدما تورط الحزب في لعبة القوة في محاولة لتخريب الجيش منهيا رهانه على الديمقراطية والحريات السياسية، ومقررا الاستيلاء على السلطة.

لم يكن بعث العراق اصلا ينطوي على كثير من المثقفين. وفي المواجهة الدموية في الشارع مع العسكر والشيوعيين تعرض الحزب الى عملية الخطف. فقد احتلته شلة من شباب السحق والمحق يتصدرها صدام. ولم تتوفر للمثقفين الحزبيين الفرصة لاستيعاب حماسة ذلك الجيل، وتهذيب انتماءاتهم الجهوية والعشيرية، وهدهدة طموحهم المبكر الى السلطة.

لا حاجة بي هنا الى تعداد اخطاء ومجازر البعث العراقي بعد انقلاب 1968 الذي انفرد فيه بحكم العراق. لو ان العالم المنقسم الى معسكرين انذاك رسم خطاً احمر لصدام بعد المجزرة الحزبية الجماعية التي ارتكبها (78 ـ 79) ضد الجناح المؤيد للاتحاد مع سورية وبعثها، لما سمح له بشن الحرب على ايران والكويت، ثم لما كان هذا التحدي العراقي المحموم والساذج للامم المتحدة وللولايات المتحدة الذي انتهى بوضع اميركا في صميم المنطقة العربية، بكل ما يعني ذلك من تحولات ومتغيرات خطيرة متوقعة.

لم يقوض صدام الحياة السياسية والحزبية في العراق فحسب، انما ايضا حول البعث الى حزب للسلطة يؤطر قواعد واطرا حزبية مستغلة وانتهازية. أقسى ما يمكن ان يصاب به حزب السلطة هو الخوف من اجهزته القمعية والسلطوية. اصبح الحزب مطية لكل متسلل ومتزلف. بات بحيرة راكدة مليئة بجزر شللية تتصارع على الحظوة والنفوذ واقتسام الفتات من الغنائم المتسربة من قبضة قيادة فردية وعشيرية متخلفة تمسك بزمام الحزب وبخناق عراقه.

ألححت في كتابات سابقة هنا على حاجة الحياة السياسية العربية الى قوى ليبرالية جديدة تتراوح بين الوسط واليمين. واذا كان لا بد ايضا من احزاب اصولية وسط هذه «الاسلمة» العشوائية للمجتمعات العربية، فأيضا وايضا لا بد في المقابل من يسار عربي جديد.

رحت اقلب طيات المعارضة العراقية، فهالني ان لا اجد بين الفصائل الليبرالية والاصولية تنظيمات واحزابا معبرة عن اليسار القومي والاشتراكي الذي يحتاج اليه العراق بعد صدام. مع ذلك فهذا النزر القليل من البعثيين والقوميين والاشتراكيين المنفيين، قادر من خلال النضال السياسي السلمي على تربية جيل يساري جديد لا علاقة له بالجيل الحزبي الذي افسده بعث صدام.

العراق، في هذا الزمن الاميركي الرديء، بحاجة الى اشتراكية ديمقراطية، تناضل مع الليبرالية او بدونها من اجل عراق عربي مستقل، عراق منفتح على عروبة امته، بقدر ما هو محترم لاديانه وطوائفه وعادل مع قومياته واقلياته.

العراق، كما الحياة السياسية العربية، بحاجة الى اشتراكية انسانية، اشتراكية مثالية، اشتراكية تحترم حقوق الانسان والحريات الفردية والعامة، وتدافع عن حقوق العمال دون ان تدمر المشروع الاقتصادي الحر. وكم اود لو ان اليسار العربي الجديد يطلع على تجربة الاحزاب الاشتراكية في الديمقراطيات الغربية، ولا يكتفي بالانبهار وتقليد التجربة السوفييتية المنهارة. لقد تمكن اليسار الديمقراطي الاوروبي من تحقيق مكاسب وحقوق للعمال والفلاحين وللمجتمع، من خلال نضال سلمي مشرف على مدى مائة عام، دون ان يحتكر السلطة، ودون ان يغتصب الديمقراطية ويقيد الحرية.

قد يكون «البعث» اسما مقيتا في عراق يعثر كل يوم في ترابه على قبر جماعي لضحايا بعث صدام. لكن يمكن للحزب القومي ان يولد باسماء وشعارات مختلفة. فالمهم المضمون، المهم سلمية الرسالة والممارسة. فالعراق، كما الحياة السياسية العربية، بحاجة الى احزاب قومية واشتراكية تنتخب قياداتها بالاقتراع الحر، وتعقد مؤتمراتها علنا بلا تدخل الاجهزة الخفية، وبلا فرض من القمة على القاعدة، احزاب يسارية تستعيد المثقفين من خيبة العزلة، ليملأوا جوانحها بحرارة الحوار وبلورة الاتفاق والخلاف.

العراق، كما الحياة السياسية العربية، بحاجة الى احزاب يسارية ليست رديفة لحزب السلطة، احزاب تحترم القوى والاحزاب الاخرى، احزاب تمول نفسها ذاتيا، ولا تثقل بنفقاتها الباهظة كاهل مواطن عربي ينوء بتكاليف المعيشة وضرائبها، احزاب تقدم على خوض ديمقراطية الاقتراع بلا محاصصة، وبلا اقتسام مسبق للجبنة النيابية، من خلال جبهات صورية مفتعلة، ومستوردة من العصر البلغاري الفائت.

العراق، كما الحياة السياسية العربية، بحاجة الى احزاب يسارية حارسة للديمقراطية، وساهرة على دساتير وقوانين ديمقراطية، ولا تسمح باحتكار الزعامة والقيادة، ولا تمارس عبادة الشخصية، ولا تنصب الدمى والتماثيل والاصنام لـ«آلهة» زائلة، احزاب تربي اجيالا على صعود السلم الحزبي والسياسي والقيادي بالكفاءة والنزاهة، وليس لاي اعتبار او انتماء اخر.

العراق، كما الحياة السياسية العربية، بحاجة الى اشتراكية عربية متسامحة تدعو الى وحدة بلا فرض او اكراه، او اجتياح واحتلال بالقوة. نحن العرب بحاجة الى احزاب اشتراكية منفتحة على العالم ومتحررة من الايديولوجيات الدوغمائية، وتقبل على الانتساب الى «الاشتراكية الدولية» لتكسب حلفاء ورفاقا اشتراكيين حاكمين في العالم الديمقراطي، ولا تترك هذا المنبر العالي لليهودية العالمية لكي تسخره ضد العرب من خلال وجودها الكثيف في الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية.

ليلى مريضة في العراق، لكنها بحاجة الى اكثر من مجرد قيس عاشق، بحاجة الى اكثر من طبيب يعالجها من عشق سقيم فرضه عليها زوج غاشم بالاكراه دهرا، تماما كما يُفرض العشق على اكثر من ليلى في ليل العرب البهيم.