الحكومة السعودية الجديدة «نظرة تأمل»

TT

حكومات مجلس التعاون بصورة عامة، لا تشتمل عادة على مفاجآت او ملاحظات تستحق التسجيل. تحتفظ القيادات السياسية بعدة وظائف اساسية كالأمن والدفاع والخارجية في بعض الحالات والباقي من اصحاب الخبرة والمعرفة وتجربة الحياة. تأتي هذه من المعاهد العلمية ومن السلك السياسي والاداري في الدولة ومن القطاع الخاص. والقاعدة هي ان يتم ذلك الاختيار على اساس الأنسب، على ألا يمس هذا الاختيار مرفقاً آخر من مرافق الخدمة او العرف. هناك من الوزراء من يكمل فصلاً وزارياً ومنهم من تسند اليه اكثر من فترة او ينتقل الى وزارة ثانية او خدمة ثانية.

قوبلت الوزارة السعودية الاخيرة تقريبا بنفس ردود الفعل التي نلمسها في الخليج بصورة عامة... «فالنتيجة لم تكن متوقعة»! وان «الوجوه لم تتغير» و«انها لم تكن متوقعة» وان هناك «من هو أصلح» و«من هو أجدر»، وان الانطباع العام ان «التغيير» جاء لاستمرار الامور بغض النظر عن الحاجة او الرغبة في التغيير. كل هذه الانطباعات والافكار طبيعية في مجتمعنا الخليجي، ولكن التأمل في البلاغ الملكي وتسمية الوزارات السعودية واختصاصاتها يعكسان روحاً جديدة ونظرة (في نظري) الى التغيير. فالبلاغ اضاف ان لجنة عالية المستوى نظرت خلال عدة شهور في الامر.. لا لاختيار الوجوه بل كما يبدو لاستشراف المستقبل. اسجل هنا من انطباعي وتجربتي الادارية ان التعديل يشتمل على التحديث والتجديدات الثابتة التي سعى اليها التشكيل الجديد.

اول التعديلات الأساسية هو فصل المال عن الاقتصاد. عندما شح او انعدم المال في الماضي البعيد حكم المال السياسات العامة لدول الخليج. ولما زاد المال وزادت طموحات القادة والشعوب زاد تأثر المال بالسياسة. انا اعتقد ان هذا الفصل هو اخطر التعديلات الوزارية في المملكة. المال سوف يقل في المستقبل مهما زاد بسبب زيادة السكان وارتفاع الطموح، ولا بد من بقاء رقيب لتبقى النار متوقدة في التنور. هذه وظيفة وزير المالية. اما قرار دمج التخطيط بالاقتصاد، فهذا للتأكد من ان هناك عامل موازنة بين الطموح والامكانيات. ان تعيين سعادة الاخ خالد القصيبي الذي ابتدأ بالنظرة العامة الى المملكة لعام 2020 هو ضمان بأن التخطيط والاقتصاد سوف يبتعدان عن النظرة الطبيعية للأمور، بل الى النظرة الشاملة للمستقبل. هذه هي قراءتي للموضوع. ويعني عدم التدخل في سير الوزارات باسم التخطيط ان يواكب ذلك استشراف المستقبل والنظرة الشاملة للأدوار.

أقف قليلاً عند وزارة الكهرباء والماء. قبل ربع قرن لم تكن هناك ازمة كهرباء لأنها كانت غير موجودة (أعني الكهرباء).. محركات ومولدات هنا وهناك قرب المدن موجودة في الدكاكين ومخازن مواد البناء، وأسلاك تمد هنا وهناك للبيوت والمتاجر. اليوم المملكة شأنها شأن دول الخليج تخترقها عبر الصحارى شبكات النقل الكهربائي شأنها شأن اوروبا، ولكن تعيين صديقنا الدكتور غازي لشؤون الكهرباء والماء لا يعني الوضع الحالي، بل هو توجيه الى المستقبل. سكان المملكة سوف يتضاعفون والاستهلاك سوف يتضاعف. والماء هو عنصر الحياة. توجد الطاقة الكامنة (النفط والغاز) ولكن لا بد من تسخيرها لخدمة الانسان. ونهمس في اذن الصديق: هل سوف يعمل على ربط الخليج من مسقط الى جدة بالكهرباء حتى ينتقل الطلب على الطاقة القصوى ثلاث ساعات مع الشمس، كما تعمل اوروبا والولايات المتحدة. فتوفر على كل دولة طلب ذروة لوحدها وتوفر ما يعادل مليوني برميل من الطاقة. انني اشعر بالاطمئنان من ان صديقنا الذي سوف يصرف كل ساعات اليقظة في الحلم والتفكير والشعور، سوف يصرف نفس الساعات في التنفيذ والعمل، هذا واحد من قلة، وهبه الله قلبين في جوفه، وفقه الله.

واخيرا وليس آخرا هو القرار الخطير بتحويل الكثير من الخدمات الى السلطات والصلاحيات الى الوزارة المسؤولة عن البلديات والمناطق القروية.

هذا اعلان رسمي بأن المملكة سوف لن تدار من سلطة مركزية كما في الماضي، بل سوف تعزز دور السلطات المحلية بتجربة ادارة شؤونها. وما دور الرياض الا التنسيق والعون وهذا هو منطلق الديمقراطية الحقيقية. وان الوزير المعني قادر بمركزه السياسي وخبرته الادارية على ملء هذا الجانب. سألت يوما صاحب السمو الملكي الامير مقرن بن عبد العزيز عن سبب نجاحه في امارة حائل، فأجاب بأنه ميز بين الغابة والاشجار في الرياض. مهما أوتي الانسان من اسم ومركز وقدرة فان شارعاً في حائل سوف لن يعبر الا بموافقة محاسب للمرور في الرياض ومهندس في الطرق في الاشغال (وكنت أذهب لهم). هذا القرار سوف ينتقل الى الامارات والشؤون البلدية وسوف ترتاح وتتفرغ الرياض الى ما هو اهم، وترتاح المناطق الى ما يهمها ويهم مواطنيها.

بقيت السياسة الخارجية والنفط. فبقاء الامير سعود الفيصل هو اذان الى العالم بأن السياسة السعودية وتعاملها مع العالم سوف تبقى محاطة بموازين العقل والحكمة. اعادة تعيين الاخ علي النعيمي في النفط هي اعلان الى العالم بأن المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتق المملكة نفطياً، او ابقاء العالم حياً مزدهراً لا يوازيها الا ازدهار وتقدم المملكة. النعيمي لا يحتاج لمن يفهمه أمور النفط وقد كسب خلال الوزارة الحكمة السياسية لتوجيه صناعة النفط.

هذه افكاري الخاصة بالنسبة الى التشكيل الوزاري وهي نابعة من قناعتي الخاصة واعتقادي الثابت بأنه اذا عطست المملكة فسوف نصاب نحن بالزكام وارتفاع درجة الحرارة، وبقاء المملكة متقدمة مزدهرة هو ضمان لاستقرار الخليج.

لقد هرمت الجامعة العربية وتحولت من العقم الى مرحلة بوادر الشلل. ولعل نهضة دول مجلس التعاون تغري العالم العربي بتطور اقليمي حي في مناطق مشابهة لما يدور في الخليج، وهذا كفيل باعطاء الشعور القوي الثابت املاً في النشاط والحياة.