تفرد واشنطن: أوامر وإملاءات للجميع

TT

هل ثمة خيط رابط بين الموعد الذي اختارته الادارة الجمهورية الاميريكية لتقديم خريطة الطريق الى اسرائيل وحكومة ابو مازن، وبين موعد تنصيب محمود عباس رئيسا لوزراء حكومة فلسطين، وموعد انتصار بوش على صدام حسين؟ يظهر ان الجواب على هذا السؤال بالايجاب يفرض نفسه بعدما صرحت الادارة الاميريكية نفسها بأنها أرجأت الافراج عن الخريطة الى حين استلام ابو مازن سلطته على رأس الحكومة الفلسطينية لتُسَلِّمها له يدا بيد برهانا على ثقتها فيه. وهو ما جاء على لسان الرئيس بوش في صيغة اخرى عندما قال: «انني أثق في الرئيس ابو مازن واعتبره شخصا يمكنني ان اتعامل معه».

اما ربط تقديم الخريطة بالانتصار على العراق فان تقارب تاريخ تقديمها مع تاريخ اعلان الرئيس الاميريكي في مظهر احتفالي حربي فريد من نوعه انتصارَه على النظام العراقي يجيب هو ايضا بالايجاب على السؤال.

وكل شيء يؤكد ان البيت الابيض يربط بعلاقة عضوية بين مخطط اعادة رسم خريطة الشرق الاوسط، وحادثي الانتصار الاميريكي في العراق، وقيام حكومة ابو مازن. اذ طبقا لمخطط استراتيجية الامن القومي الاميريكي ستتغير صورة المنطقة تغييرا جذريا على مراحل قد تختلف فيها اداة ارادة التغيير بين حربية وسلمية، ولكن تلتقي في مجموعها على هدف الاطاحة بنظمها الماردة واقامة نظم طيِّعة بديلة متفهمة تقبل تفرد القطب الاميريكي بصنع الخرائط وتغيير النظم.

ويظهر ان هذا التفرد اصبح اساس العمل الديبلوماسي الاميريكي وقطب الرحى الذي يدور حوله التعامل الدولي عند الولايات المتحدة. الم تصنع هذه الخريطة لجنةَ رباعية تبنَّتها على قدم المساواة مع القطب الاميريكي، لكن وحده هذا القطب هو الذي تولى الافراج عنها في التوقيت الذي اختاره وحدده. وهو الذي يتابعها عن كثب ويحدد الشروط التي يرى انه يجب توفرها لها قبل البدء في التفاوض عليها ومن بينها شروط تعجيزية او يصعب توفيرها.

في الزيارات التي قام بها الاسبوع الماضي «كولين باول» الى عواصم في المنطقة كان يكرر في تصريحاته ان على دول المنطقة ان تأخذ العبرة من التغيير الذي أُحدث في العراق، وتغير سياستها وتوجه علاقاتها الدولية على ضوء هذا التغيير، وان تحُكِم الربط في تحديد سياستها في المستقبل بين الواقع العراقي وبين الصيرورة السياسية المقبلة التي يجب ان تقيم عليها دول المنطقة تعاملها الدولي ومواقفها من القضايا الساخنة وتعاملها مع المشاكل المعقدة.

وحين يجري على لسان المسؤولين الاميريكيين تعبير «واقع التغيير العراقي» لا تكون له إلا دلالة واضحة لا تقبل التأويل، مُفادها ان الولايات المتحدة قد اطاحت بالنظام العراقي المصنَّف في النظم المتمردة على سلطتها ودحرته في معركة التحدي بانزالها به هزيمة نكراء، وان هذا المصير يعطي درسا لمن لم يتعظوا ولكل من تُسوِّل له نفسه المجاهرةَ بالعصيان والتمرد على الولايات المتحدة.

ولان المخاطب السوري فهم التعبير الاميريكي على حقيقته اثناء زيارة الوزير الاميريكي الاخيرة لدمشق فقد جاء رده يقول: ان سوريا تقبل وترغب في الحوار مع الولايات المتحدة، لكنها لا تقبل ان تعطى لها اوامر واملاءات. والخطاب الاميريكي اصبح بالفعل خطاب اوامر واملاءات موجهة الى الجميع.

ان القطب الاميريكي يبدو مزهوا بانتصاره على النظام العراقي، وتطاولُه على الغير تجاوز الحدود. وهل ثمة ابلغ دلالة من توجيه القيادة الاميريكية انذارا صريحا لفرنسا ـ وهي احد اقطاب مجلس الامن الخمسة ـ جاء فيه انها «تنوي معاقبة فرنسا على موقفها من حرب العراق». بل صيغ هذا الانذار في صيغة غير مهذبة فيها مساس بكرامة فرنسا جاء فيها ان «على فرنسا ان تؤدي الثمن على ما ارتكبت». وماذا ارتكبت فرنسا المسكينة من الفواحش والمنكرات حتى تقيم عليها الولايات المتحدة الحد؟

انها عارضت في مجلس الامن اضفاء الشرعية على العدوان الاميريكي الذي كان رفضه سائدا في المجتمع الدولي. ولم تجد الولايات المتحدة من يقبل ان يكون ضالعا معها فيه الا بريطانيا وأوستراليا. ولم تزد فرنسا على ان اعربت عن اجتهاد مخالف للاطروحة الاميريكية، وتقدمت بحلول لنزع فتيل الحرب مع تأكيدها على وجوب نزع اسلحة التدمير الشامل من العراق. فأي إثم هذا الذي ارتكبته؟

ربما كان التفكير الاميريكي في معاقبة فرنسا يرجع الى اتهامها بالقذف «والمس بالذات» الاميريكية «المقدسة» التي لا يعطيها المجتمع الدولي قدسية يَحْرُم انتهاكُها. والاعراب عن رأي مخالف لها مجرد اختلاف في الاجتهاد على الافضل وليس قذفا ولا يترتب عليه حد القذف ولا حد المس بالحرمات. لكن هذا المثال يشخص ما دخلت فيه سياسة اميريكا بعد انتصارها في العراق من انحراف وتطاول. ويشكل تعاملها مع سوريا بنفس التهديد مثاله الاخر.

والسؤال المطروح الان بشأن خريطة الطريق هو: هل تنوي الولايات المتحدة ان تضغط على ابو مازن بنفس الاسلوب الذي تُعامِل به كل من تسوِّل له نفسُه قول لا، او نعم ولكن؟ وهل تنتظر منه ان يقول نعم بكل ارتياح لخريطة الطريق بدون قبول مبدأ الحوار عليها لسد ثغراتها واكمال نقائصها وتوضيح معَّمياتها؟ ام انها تريد منه ان يأخذ درسا من واقع التغيير في العراق ويقبل بدون حوار ولا نقاش ما تتصدق به عليه خريطة الطريق؟ وهل ستقوم الولايات المتحدة بدور الوسيط غير المنحاز الراعي للسلام الحق الذي لا يُفرض بالتهديد ولا يمد يده الفولاذية بالسلام لمن هو تحت الاحتلال وهي مغلفة بقفاز من حرير؟

لقد قال الرئيس «بوش» عن الرئيس أبو مازن: «انه شخص يمكن ان يُتعامل معه». لكنه لم يقل كيف سيكون التعامل معه وفي اي ظروف وعلى اي شروط يرغب الرئيس الاميريكي في التعامل معه. اعتقد ان الرئيس الاميريكي سيخيب امله في رئيس الوزراء الفلسطيني اذا اعتقد ان هذا الاخير مستعد للتعامل مع الرئيس الاميريكي في جميع الظروف، وانه قابل سلفا لجميع الشروط التعجيزية التي يراد فرضها عليه. وسيكون من السذاجة ان يظن الرئيس الاميريكي ان ابو مازن من نوع القادة ضعيفي الشخصية المتقلبين والانهزاميين الذين يطوَّعون بالتهديد ليُفعل بهم ما يراد منهم ان يفعلوه ولو على حساب مبادئهم واقتناعاتهم. ولمعرفتي الواسعة بالرجل استطيع ان اقول عنه انه رجل الحوار الذي يتموقع في الوسط، والمفكر السياسي الذي ينفذ ببصره الى كبد الحقيقة ويزنها بدقيق الموازين. ويمكنه ان يتنازل، لكن لا الى حد التفريط في الثوابت.

ان أبو مازن قام في نظري بتضحية كبرى وأعرب عن شجاعة تثير الاعجاب بقبوله التكليف من لدن الرئيس عرفات بتشكيل الحكومة وقيادتها في الظروف الخطيرة التي تجتازها القضية الفلسطينية مع حكومة شارون المتطرفة. وهو يعلم انه يواجه صعوبات وتحديات ليس من السهل مواجهتها. وقد يكون من قبيل المستحيل ان يغالبها جميعها، وانه سيمضي في عمله لتحقيق السلام على صراط ارق من شعرة وامضى من سيف. فعلى الولايات المتحدة ان تساعده على انجاح المغامرة الخطيرة التي صح منه العزم على اقتحامها اذا كانت تريد ان تحقق السلام الفعلي في المنطقة وتنقلها الى عهد جديد كما تقول.

لقد اشتهر ابو مازن بكونه المهندس الفلسطيني لاوفاق اوسلو، ومخاطب «يوسي بلين» عضو حزب العمل الاسرائيلي المعروف عنه انه من الحمائم ودعاة السلام. وعُرف عن ابو مازن ايضا انه دخل في محاورات مبكرة مع الجنرال الاسرائيلي «ماثيتناهو بلير» سنة 1977 ادت الى اعلان مبادئ سلام يقوم على دولتين اسرائيلية وفلسطينية، كما اشتهر بدعوته الى انهاء عسكرة الانتفاضة ضد المدنيين الاسرائيليين.

وجاء في خطاب تنصيبه ان حكومته ستجمع السلاح الممنوع لكن سيكون خطأ فاحشا يرتكبه الوسيط الاميريكي اذا كان يعتقد انه سيتمكن من حمله على التفريط في الحقوق الشرعية لفلسطين بالضغط عليه وتهديده، اي بالاسلوب الخاطئ الذي تعمل به الديبلوماسية الاميريكية هذه الايام مع عدد من النظم الدولية التي تصنفها في المارقة أو المتمردة او لا يعجبها لون بشرتها.

واظنني في غير حاجة الى ان انصح الصديق ابو مازن بان يتروى في قبول وتنفيذ ما يُطلب منه. فالرجل من طينة اولئك القادة الذين لا يضعون الخطوات الا على المواقع الثابتة التي لا تزلّ فيها الاقدام ولا يحتاج بالتالي لناصح.

اتمنى لابو مازن النجاح في مواجهة التحديات التي ستعترضه لا محالة. وأنا مؤمن بقدرته على التغلب عليها.