هل يمكن وقف الانهيار في فلسطين وحولها؟

TT

بشكل او بآخر، عاجلاً ام اجلاً، ستمر حكومة ابو مازن بما مرت به الكثير من الحكومات عبر العالم في اوقات الازمات الداخلية، أي الموازنة بين ضبط الامن وبين ضمان حقوق الانسان، او بين تطبيق القانون وبين فرض احترام وسطوة الدولة، او بين تلبية مطالب سياسية خارجية ضرورية وبين الاستجابة لرؤية الجمهور المحلي.

لقد مرت الولايات المتحدة، ولا تزال، بتجربة التوازن بين ضمان القانون المدني وحرية الافراد من جهة، وبين ضمان الامن من جهة اخرى، وذلك على اثر احداث تفجيرات 11 سبتمبر 2001 ، ومالت لصالح الامن على حساب القانون والحريات. وبنسب متفاوتة، تمر دول ديمقراطية غربية بتجربة مشابهة الآن. وكانت بريطانيا قد رجحت بوضوح كفة الامن على حساب الحريات والقانون اثناء تصديها للمقاومة الايرلندية. وكذلك فعلت المانيا طوال السبعينات اثناء تصديها للحركات اليسارية والفوضوية، اذ تأثرت حياة كل الالمان من جراء التغيرات القانونية والاجراءات الاحترازية وانتهاك الحقوق الفردية لتسهيل القضاء على الحركات المسلحة.

عملياً يختلف الوضع من بلد لآخر. في فلسطين بدأت المطالب توجه لحكومة ابو مازن لتتناسى القانون وتمنع العمليات المسلحة ضد اسرائيل بكل الطرق. ولأن اسرائيل لا تريد السلام وتريد التملص من الضغط الدولي والاميركي، فإنها وعلى لسان شارون تضع شروطاً لوقف العمليات قبل استئناف عملية السلام، وسوف تصر على الاحتفاظ «بحق» الرد والملاحقة والضرب الاحترازي، وهذا سيعقد الامور طبعاً. من طرفه لا يستطيع ابو مازن فرض الهدوء بدون الحصول على وعود وضمانات لحل ناجع يمكن تقديمه للجمهور وللمعارضة في مقابل منحه فترة هدوء طويلة نسبياً ريثما تثمر المفاوضات عن نتيجة، خصوصاً ان «خارطة الطريق» تشمل انجازات محددة زمنياً وتحدد نتيجة نهائية لدولتين متجاورتين في عام 2005 ، أي بعد عامين فقط.

حتى الآن تبدو المعارضة الفلسطينية المسلحة هي العثرة الاساسية امام «خارطة الطريق»، وهذا ما يخدم الرفض الاسرائيلي لهذا الحل ولكن بدون تحمل النتيجة. لقد اعلنت المعارضة الفلسطينية انها سترفض الانصياع لمطالب الحكومة او قبول هذا الحل. وبالتالي سيجد محمود عباس نفسه امام خيارات تتراوح بين الانسحاب من الساحة وحتى قهر المعارضة املاً في فرض الامن. التراجع لا يخدم القضية بل يفيد اسرائيل، والقهر سيعطل الحل، كما ان السلطة الفلسطينية لم تعد لديها قوة ذاتية للقهر بعد ان دمرتها اسرائيل في العامين الماضيين بأضعاف ما دمرت قوى المعارضة الفلسطينية.

الحل المنطقي هو التوازن الفلسطيني كالتالي: اتفاق فلسطيني ـ فلسطيني على الحد الادنى للحل الذي تفاوض عليه حكومة ابو مازن، وفي مقابل ذلك تعلن المعارضة تقبلها لفترة هدنة احادية الجانب لا تستجيب فيها حتى للاستفزاز الاسرائيلي، وبالطبع تستعد حكومة ابو مازن بعدم ملاحقة قوى المعارضة اثناء هذه الهدنة الا ضمن القانون السائد وللمخالفين فقط. حل كهذا لا يلغي الانتفاضة المدنية السلمية وسبل التعبير، ولا يقوض انجازات الانتفاضة وادواتها، ولا يؤدي لاقتتال ذاتي او تسلط حكومي، كما انه لا يدفع في طريق التنازلات السياسية التي تخيف المعارضة والشعب.

في المقابل فإن الاختلاف بين المعارضة والحكومة سيضر بالطرفين وبالقضية وبدول الجوار العربي، وخصوصاً سورية، وسيفيد اسرائيل بالطبع ويخدم تطلعات الصقور في واشنطن الذين يريدون توسيع الصراع من العراق ليشمل سورية ولبنان وفلسطين وايران.

التصدي الايجابي لخارطة الطريق يتم بتقييد حكومة ابو مازن عبر التوافق معها على حدود وطنية لا يمكن تجاوزها. اما التصدي للحكومة فسيؤدي حتماً للاقتتال وسوف تخسر المعارضة ارضيتها الشعبية الحالية بسرعة. صقور واشنطن سيروجون اكثر فأكثر لوجود علاقة قوية بين المعارضة الفلسطينية المعادية للسلام من جهة، وبين وسورية وحزب الله وايران من جهة اخرى، ويتخذون من ذلك ذرائع لفرض حصار اقتصادي على تلك البلدان تقليداً للقصة مع العراق.

لقد نجحت الادارة الاميركية في فرض مفهومها للإرهاب على بقية العالم، ووفقت بسهولة في جدولتها للإرهابيين بعد ان فازت برضى العالم لمقاومة الارهاب. بل ان هذه الادارة وضعت الدول العربية والشرق اوسطية في دائرة الاتهام بتصنيع الاسلحة غير التقليدية الى درجة لم تعد أي دولة مستقلة تجرؤ على اعلان امتلاكها لأسلحة كيماوية او بيولوجية. لقد اصبحت الحجج في جعبة واشنطن لشن حروب وتسجيل انجازات سهلة ضد ما اتفق على وصفه وتعريفه بالارهاب، كثيرة، والشعب الفلسطيني الذي لا يملك غير ارادته للدفاع عن ذاته، ليس بحاجة الى معاداة واشنطن في الوقت الذي يقدم فيه رئيسها وعداً بقيام دولة فلسطينية امنة مستقرة وقابلة للحياة وذلك في غضون عامين.

من المهم لكل فلسطيني ان يعرف الفارق بين كراهية السياسة الاميركية وبين عدم القدرة على الانجاز للحل بدونها. يمكن رفض التنازلات السياسية عن الحقوق الشخصية والشرعية ضمن أي حل سياسي، ولكن لا يمكن رفض الحل كله سلفاً. يمكن طرح حلول افضل مع توضيح سبل انجازها سلماً، ولكن من الخطأ رفض كل الحلول الاخرى من دون طرح بدائل منطقية تناسب الواقع وتتناغم مع القدرات.

ان قوى المعارضة الفلسطينية متعددة الالوان تتفق على رفض حكومة ابو مازن ورفض «خارطة الطريق» لأسباب معظمها انانية، ولكن هذه القوى لا تتفق على رؤية موحدة او مشروع متفق عليه للحل. بل ان حال المنظمات الاسلامية الاقرب لبعضها البعض، هو مثل حال المنظمات اليسارية والعلمانية المفتقدة لمشروع حل متفق عليه. والحل عموماً لا يُرسم من وحي الآمال فقط، بل يجب ان يتماشى مع الممكن والواقع بما يمنع التدهور اولاً، ويحقق الثبات ثانياً، ثم يحرك الكرة تدريجياً الى الامام.

الحكومة الفلسطينية بحاجة الى طرح رؤيتها السياسية وعدة تساؤلات على الشارع الفلسطيني لتحصل على ثقة وتأخذ فرصة زمنية معقولة للانجاز. والانسان الفلسطيني بحاجة للبحث عن اجابات: هل العمل المسلح في العامين الماضيين افاد القضية والشعب ام اضر بهما؟ هل الاستمرار في هذا النهج سيقربنا اكثر وبسرعة من الحل، ومن أي حل اصلاً؟ الا توجد اساليب نضالية سلمية تتناسب مع الظروف وتبعد الشعب عن نفسية الانتحار او الاستسلام؟ هل من الخيانة الوطنية المناورة ضمن مشروع سلام اميركي ـ روسي ـ اوروبي ترفضه اسرائيل؟ من المستفيد من استمرار هذا الحال، شعب فلسطين ام اسرائيل؟

استمرار الرفض الفلسطيني التنظيمي للحلول بهذا الشكل العدمي وبدون الاتفاق على بدائل معقولة لن يخدم أي طرف غير اسرائيل، بل ان الرافضين سيضرون حتى بمصلحة ايران وسورية وحزب الله، وهذا ما اصبح واضحاً في دمشق وطهران وبيروت. اصوليونا في غزة ونابلس والخليل عليهم القفز للمستقبل عبر التعامل الايجابي والاستفادة من فكرة الهدنة الذاتية في انتظار ان تخل اسرائيل بالاتفاقيات ونسف فرص السلام، او بالطبع يعرفون سلفاً انهم يتحملون مسؤولية ما ستؤول اليه الاوضاع في فلسطين وحولها ايضاً.