هل نحن على أبواب فوضى عالمية جديدة؟

TT

أمامي وثيقتان أمريكيتان غاية في الأهمية، من ناحية المضمون، خصوصاً بالنسبة للوضع الذي يعيشه العالم مطلع الألفية الجديدة. الأولى فقرة من برنامج الحزب الديمقراطي تعود إلى عام 1900، وفيها ورد ما يلي: «نحن نؤكد أن أية أمة تريد أن تكون نصف جمهورية ونصف إمبراطورية لا يمكنها أن تستمر في الحياة طويلا. ونحن نحذّر الأمريكيين ضد الإمبريالية التي هي وسيلة ناجعة وسريعة لإحلال نظام استبدادي في بلادنا نفسها (...) ونحن لسنا مستعدين أن نفقد حضارتنا وأن نحوّل جمهوريتنا إلى إمبراطورية».

ومنتقدة الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك ضد الفيليبين، تقول الوثيقة: «لقد قامت الإدارة التي على رأسها مسؤولون من الحزب الجمهوري بتطبيق سياسة عدوانية في الفيليبين تقودها في ذلك مصالحها التجارية. غير ان تبرير الغاية بمثل هذه الوسيلة الدنيئة والقذرة هي في الحقيقة متناقضة مع الأحداث والوقائع. نحن مع إشعاع جمهوريتنا بين الأمم الأخرى، ونحن مقتنعون بأن تأثيرا كهذا لا يتم الحصول عليه لا بالقوة ولا بالعنف، وإنما بقوة الاقناع والحجة. نحن نناهض السياسة العسكرية، ذلك ان مثل هذه السياسة لا تفضي، في النهاية، إلا إلى الاستبداد والطغيان على المستوى الداخلي. ولقد بيّن التاريخ أن اليد الحديدية كانت دائماً وأبداً، مضرّة بالمؤسسات الحرة، ثم ان مثل هذه السياسة سوف تجبر أبناء شعبنا على تكوين جيش مهم، وعلى دفع ضرائب من دون أية فائدة وسوف تظل تهدد دائما حرياتهم».

أما الوثيقة الثانية، فهي نصّ كتبه جون كوينسي أدامس، يوم 4 يوليو (تموز) 1821، وفيه يقول: «على أمريكا الحقيقية ألاّ تبحث عن طغاة ومستبدين لتحطيمهم والقضاء عليهم (...)، فهي تعرف جيداً أنه برفعها راية ليست رايتها، حتى ولو كان ذلك بهدف بلدان أجنبية، هي تجعل نفسها بذلك منخرطة مباشرة في حروب المصالح وفي كل الدسائس والمؤامرات المتولدة عن الأطماع الفردية، وفي كل الطموحات والرغبات التي تنتهك ألوان الحرية. وعندئذ من المحتمل أن تتحول إلى ديكتاتور يحكم العالم، وبذلك تفقد استقلالية فكرها».

على ضوء هاتين الوثيقتين، سوف أحاول أن أقدم بعض الملاحظات حول الواقع العالمي الراهن..

منذ انهيار ما كان يسمّى بالاتحاد السوفياتي، ومعه المعسكر الشيوعي، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية، القوة الأولى في العالم، وباتت حركاتها وسكناتها مراقبة بدقة من قبل الاصدقاء والأعداء على حدّ سواء. فالاصدقاء يعتقدون أن قوتها السياسية والعسكرية ضرورية للحفاظ على السلام العالمي ولردع كل الذين يحاولون زعزعة أركانه والنيل منه، حتى ولو أدى ذلك إلى استعمال القوة ضد بعض الأنظمة الخارجة عن القانون الدولي. وأمّا الأعداء، فيرفضون أن تصبح الولايات المتحدة «شرطي العالم»، كما هم يقولون، و«إمبراطورية عالمية تفرض سيطرتها السياسية والاقتصادية والآيديولوجية على الشعوب الأخرى بقوة السلاح. وعلى ضوء الوثيقتين المذكورتين، يمكن لهؤلاء أن يقرأوا الوضع العالمي عقب احداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001. فباسم الحرب ضد الإرهاب، باتت الولايات المتحدة الأمريكية تتصرف وكأنها وحيدة في العالم، مقسّمة الدول الأخرى إلى صنفين: من هو معها ومن هو ضدها، وبخصوص العراق وإيران وكوريا الشمالية، ابتكر المخططون للسياسة الأمريكية الجديدة الذين يسمّون بـ «الصقور» مصطلح «محور الشر»، لتبرير التدخل العسكري في البلدان المذكورة. وقد بدأوا بالعراق، والآن يعكف المراقبون والمختصون في شؤون السياسة الدولية على تحديد البلد الذي سيكون هدفا للضربة العسكرية الأمريكية القادمة، بالإضافة إلى ذلك لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تعير اهتماماً كبيراً لحلفائها القدامى، خصوصاً عندما يتجرأ هؤلاء على رفع أصواتهم لرفض أو لانتقاد توجهاتها ومخططاتها السياسية. وهذا ما حدث مع فرنسا وألمانيا، قبل شن الحرب على العراق، كما أنها لم تعد تعبأ بالمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، التي رمت بقراراتها عرض الحائط وأرسلت جيوشها لإسقاط نظام صدام حسين..

وقد تكون الولايات المتحدة محقة إلى حدّ كبير في حربها ضد الإرهاب، الذي أصابها في الصميم، وأصبح يهدد العالم بأسره. وقد يكون اسقاطها لبعض الأنظمة التي تحكم شعوبها بالحديد والنار، أو في ردعها لأنظمة تهدد السلام العالمي عملاً مشروعاً، خصوصاً إذا ما كان مدعوماً من قبل المنظومة الدولية.. غير ان هناك مخاطر يمكن أن تنجم عن مثل هذه التوجهات، أولها أن تصبح المصالح السياسية والاقتصادية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية الهدف الأساسي والوحيد الذي يستوجب منها القيام بمثل هذه الأعمال، أما ما تبقى فأمر لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد. ومن المؤكد أن مثل هذه السياسة الأنانية العمياء سوف تولّد الكراهية والعداء تجاهها لدى الأغلبية الساحقة من الشعوب والأمم الأخرى، وسوف تحوّلها إلى «إمبراطورية شر» حقيقية.

وإذا ما أرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن تثبت للعالم ان الغاية الأساسية من توجهاتها السياسية الجديدة هي إحلال السلام والوفاق بين الشعوب، فإن واجبها يقتضي أن تعمل على إطفاء بعض الحرائق التي تحول دون بلوغ مثل هذه الأهداف النبيلة. وأخطر هذه الحرائق هو الصراع العربي ـ الإسرائيلي المستمرّ منذ أزيد من خمسين عاما، والذي حوّل العالم العربي ـ الإسلامي برمته إلى بؤرة تهدّد العالم بأسره بكوارث ومصائب أشد أذى من تلك التي شهدها على مدى الخمسين عاما الماضية. وقد بات الآن واضحاً أن الحل الوحيد لهذا الصراع الدموي الطويل هو إنهاء محنة الشعب الفلسطيني وذلك بالإقرار بحقه المشروع في إقامة دولته الوطنية، ولأنها تتمتع بنفوذ كبير تجاه إسرائيل، خصوصاً على المستوى العسكري والسياسي، فإن الولايات المتحدة قادرة على وضع حد لهذا النزاع، وبذلك تنزع فتيل العديد من الحروب المدمرة التي لا تهدد منطقة الشرق الأوسط وحدها، وإنما العالم بأسره.

وعلى الولايات المتحدة أيضاً ان تعمل على الحدّ من اتساع الهوّة بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة، أو بين ما يسمى ببلدان الشمال والجنوب والتي لا تزال مصدراً لنزاعات خطيرة، ولمظالم يرفضها الضمير الإنساني. ففي النهاية هي لن تكون في مأمن من المخاطر طالما هناك شعوب تجوع، وتتعذب، وتهان، وتعيش محرومة من أدنى مقتضيات الحياة.

في كتابه الشهير: «العلم الجديد» حدّد المؤرخ الإيطالي الكبير غيامبا تيستا فيكو (1668 ـ 1744)، السيرورة البشرية كالتالي: في البداية كانت تحرك الناس عقيدة إحيائية تمنح نفوذاً سحرياً للأمكنة وللعناصر المجسّدة من قبل الآلهة، وكان يرى ان الأساطير التي تعود إلى ما قبل التاريخ هي في الحقيقة شكل من أشكال الحكمة الفطرية عند الإنسان. غير أن سيادة الآلهة انتفت في ما بعد أمام صعود الفرد. فجأة، دخل المشهد ملوك وأبطال لينشئوا بدورهم اوليغارشية ولمجتمع ارستقراطي في ظله يتقاتل النبلاء من أجل السيطرة على جهاز الدولة. ومع مرور الزمن يفضي هذا اللعب المسلي إلى توليد نظام استبدادي يقوم الشعب باسقاطه ليقيم على انقاضه الجمهورية، وبدورها تصبح هذه الجمهورية قوة امبريالية جشعة يكون مصيرها في النهاية الانهيار والموت.. بعدها تأتي الفوضى التي تفضي في نهايتها الى عصر جديد من الهيمنة والاستبداد. واليوم نحن نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد بلغت الدرجة الأخيرة في التطور، لذا نحن نخشى إن هي أصبحت تتصرف كما لو أنها القوة الوحيدة في العالم أن ترمي بنفسها وبالإنسانية جمعاء إلى الفوضى العامة والشاملة، التي حذّرنا منها غيامبا تيستا فيكو قبل نحو أربعة قرون.